شعرت بقشعريرة هي اقرب الى الحسرة منها الى الخوف ، لأن استشهاد بطل في عز عزيمته وشجاعته يمثل انتكاسة انسانية قبل غيرها، كما أن ترجل فارس في منتصف الطريق يمثل خيبة أمل لكل من تباهى برجولته، مثلما أن فقدان شهم على أيدي حفنة بائسة من عصابات الغدر هو الحزن بأم عينه، فلو أن هؤلاء واجهوا سيدهم المقدم محمد خالد الجبوري وجها لوجه لاذاقهم العلقم ، مثلما فعل بكل خافيش الظلام، الذين ينشطون في الليل ويختبأون بجحور لا تناسب الا احجامهم المقزمة بارادة الله.
نعرف أننا خسرنا عسكريا أقسم بالمحافظة على شرف مهنته وعدم الدوران حول نفسه مثلما يفعل كثيرون، أراد ان يواجه الموت بشجاعة حبه للعراق والافتخار بنسب يتمنى غيره أن يحصل على مباركة منه، كيف لا وهو سليل عائلة لا يزال يحدوها ذكاء شيخ متميز أسمه شويش أل سلامة، الذي استمد منه أبن أخيه قيم الرجول والكبرياء.
ولكي نعطي هذا الرجل حقه، لا بد من المرور على منجزاته منذ استلامه قيادة شرطة الضلوعية في محافظة صلاح الدين، فهو لم يميز بين قريب أو بعيد ولم يعرف الخوف طريقا الى قلبه، كما أنه ظل بعيدا عن انشغال غيره بمهاترات لا تغني عن جوع، يعمل بصمت ولم يتسلل الغرور الى قلبه، لذلك ليس من قبيل المصادفة أن يحظى بتكريم لم يسبقه اليه أحد في هذه السنوات، بدليل أن قضاء بلد أعلن الحداد 3 ايام حزنا وأسفا على رحيله، لأنه عمل من أجل صيانة أواصر أخوة حقيقية تترفع عن طائفية المهزومين في دواخلهم، أما محبيه وهم الغالبية، فقد اختاروا السواد ثيابا تلف قلوبهم لا أجسادهم، والندم يملآ حقدات عيون ستبكي كثيرا، فعلا أننا جميعا خسرناك يا أبن العم ، الرجل الصادق مع نفسه والراضي بنصيبه في الحياة.
وما يزيد من حزني على هذا الفقدان هو أنني التقيت بعد سنوات عجاف في الغربة، التقيت المقدم محمد خالد الجبوري في عزاء أحد الأقربين قبل أسابيع ، وعندما سألته عن أحواله قال بلباقة الفرسان، ” نعمل من أجل أن يكون العراق وأهله بألف خير لأننا أقسمنا على هذا الشرف، ولم ابارحه حتى لو دفعت حياتي ثمنا لذلك، وأنا أتوقع النهاية في اية لحظة لكنني سعيد بخدمة أهلي ووطني، واشعر أنني أنجزت المهمة بشهادة حتى الذين لا يضمرون لي حبا حقيقيا”.
كنت أراقب صرامة وتصميما في عيونه ومحياه ، مثلما أعرف من يقصد ولماذا، شعرت حينها أنه لم يعد خائفا من الموت لأنه واجهه في مرات عديدة وهو يلاحق مجاميع لا تعرف غير الخيانة والرذيلة طريقا للبقاء، قلت له لا تخف لأنك تدافع عن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، انك تقاتل الخائبين وفاقدي الظمير والوجدان ، اشباه رجال تعودوا الغدر والخيانة وسيبقون أذلاء مما تبقى لهم من عمر كله خزي وعار، فيما هو المقدم الشهيد فقد ترك خلفه عائلة كبيرة تتنومس برجولته.
لم يشتبك الفاشلون مع المقدم محمد وجها لوجه بل غدروا به بعبوة لا صقة هي أخر سلاح الخائبين، لكنه مع الأسف يؤذي ويفرق بين الأحبة مثلما هو الحال مع المقدم محمد خالد الجبوري، الذي ترجل مبكرا وكان يحلم باكمال المهمة، والقضاء على أخر خفافيش الظلام ، الذين ينتظرهم مصيرا لايناسب الا قلوبهم الحاقدة حتى على ابتسامة الفقراء، أما الشهيد الفارس محمد فهو باق مع أهله ومحبيه، يسلك ذات الطريق يوميا، ويرتدي بدلته العسكرية بلا رتب لآن مرتبته عند الله بين الشهداء والصديقيين.. رحمك الله أبن العم.
* رئيس تحرير ” الفرات اليوم”