يستعد العراقيون للخروج بتظاهرة مليونية ضد الاحتلال الوجود الاميركي في بلادهم، في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني-يناير الجاري، دعا اليها زعيم التيار الصدري مقتدى وحظيت بتفاعل وترحيب واسعين من قبل قوى وشخصيات سياسية كبيرة، واوساط جماهيرية كثيرة.
ربما ستكون هذه التظاهرة، التي يبدو ان هناك تحضيرات وتحشيدات كبيرة جدا لها، اقوى وابلغ رسالة للاميركان مفادها، “اذا لم تخرجوا وفق السياقات السياسية والدبلوماسية الرسمية، فسوف يتم اخراجكم بوسائل اخرى”.
ولم يعد خافيا، ان التوجه العراقي، على الصعيدين السياسي الرسمي، والشعبي غير الرسمي، نحو انهاء الوجود الاجنبي، بات امرا ملحا واولوية مهمة لامناص منها، ومجمل مواقف الحكومة البرلمان خلال الاونة الاخيرة اشرت الى ذلك، معززة بمواقف طيف واسع من القوى والكيانات السياسية والنخب والاوساط المجتمعية.
والاكثر والاهم من ذلك كله، ان المرجعية الدينية، شددت في بيانها الاخير الذي تلاه امام جمعة كربلاء المقدسة من الصحن الحسيني الشريف من على منبر صلاة الجمعة الاخيرة، على خطورة وحساسية معركة السيادة التي اعتبرتها لاتقل اهمية عن معركة الاصلاح.
وقد جاءت اشارة المرجعية الى معركة السيادة، بعد الاعتداءات الاميركية على قوات الحشد والشعبي، وتورط واشنطن بأغتيال كل من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني مطلع الشهر الجاري قرب مطار بغداد الدولي، وبعد تصريحات ومواقف استفزازية وغير لائقة من قبل ساسة اميركان في مقدمتهم الرئيس دونالد ترامب، حول التعاطي مع المطالب العراقية.
الى جانب ذلك، فأنه بعد مرور اكثر من ثلاثة شهور على انطلاق حركة الاحتجاجات الجماهيرية السلمية في الشارع العراقي، تكشفت جوانب مهمة وخطيرة من الدور السلبي للولايات المتحدة الاميركية ودول اخرى في دعم وتمويل وتشجيع جماعات مخربة ومنفلتة لاجل اثارة الفوضى والاضطراب والاخلال بالامن والنظام، عبر تخريب وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، وعرقلة دوام وعمل المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وحتى غير الحكومية، وشن حملات التسقيط والتشهير الاعلامية من خلال الفضاء الالكتروني والقنوات الفضائية ضد الرموز الدينية والزعامات السياسية الوطنية.
ولاشك ان كل تلك التحركات والمواقف والتوجهات تثير حفيظة واشنطن وتزيد من قلقها وتوجسها وارتباكها، لاسيما بعد الضربات الصاروخية الايرانية التي وجهت لبعض مواقع تواجد قواتها في العراق.
جانب من ذلك القلق والتوجس والارتباك، بدا واضحا من خلال المواقف والتصريحات المتناقضة الصادرة عن مراكز القرار السياسي الاميركي، مع ايحاءات واشارات، بدأت ضمنية وتحولت فيما بعيدة الى صريحة، قد يكون نائب مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الأوسط، جوي هود، قد عبر عنها بصراحة، حينما نفى أي حديث الآن حول انسحاب القوات الأميركية من العراق، في ذات الوقت الذي اعتبر فيه ان الوقت الحالي هو الأنسب للولايات المتحدة والعراق من أجل الجلوس معاً للحديث عن الالتزام بالشراكة الاستراتيجية على المستوى الدبلوماسي والمالي والاقتصادي والأمني.
وقبل ذلك كان وزير الخارجية مايك بومبيو، قد ادعى “إن جميع القادة العراقيين أبلغوه في مجالس خاصة أنهم يؤيدون الوجود العسكري الأميركي في بلدهم، على الرغم من المطالبات العلنية بخروج الجنود الأميركان من العراق”، هذا في الوقت الذي اعلنت مصادر سياسية واعلامية اميركية عن استئناف العمليات العسكرية المشتركة مع القوات العراقية بعد توقف دام مايقارب اسبوعين اثر اغتيال كل من المهندس وسليماني في العراق.
وقبل ذلك ايضا، لوح الرئيس ترامب بفرض عقوبات اقتصادية على العراق اقسى بأضعاف المرات من العقوبات المفروضة على ايران، في حال اصر على اخراج القوات الاميركية من اراضيه، ناهيك عن كونه طالب بدفع تعويضات لبلاده مقابل ما انفقته لحماية العراق والدفاع عنه بوجه الارهاب!.
وتدرك واشنطن ان المواقف السياسية لها لم تعد تفلح في مواجهة المواقف العراقية الحازمة لاستعادة السيادة الحقيقية الكاملة، لذلك فأنها راحت تتحرك بمساحات اخرى وتوظف ادوات ووسائل غير الادوات والوسائل الدبلوماسية الرسمية العلنية، من اجل خلط الاوراق.
فهناك تسريبات من داخل اوساط استخباراتية، تؤكد ان واشنطن وعبر سفارتها في بغداد وبعض امتداداتها، دفعت المجاميع الممولة منها الى رفع الشعارات المطالبة بألابقاء على القوات الاميركية والتخويف من تبعات خروجها في الوقت الراهن، وبالفعل فأن شوارع مدن كربلاء المقدسة والمثنى وبابل والديوانية وذي قار، شهدت بحسب ما اكد شهور عيان، قيام مجاميع برفع وترديد شعارات مسيئة للحشد الشعبي وفصائل المقاومة والبرلمان بعد التصويت في الخامس من الشهر الجاري على مشروع قرار يقضي بأخراج القوات الاميركية من البلاد، وترافق ذلك مع حملات منظمة واسعة بذات الاتجاه تنبتها قنوات فضائية عراقية وعربية، مثل الشرقية ودجلة والعربية والعربية حدث وسكاي نيوز العربية، وعشرات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك وتويتر.
هذا من جهة، ومن جهة اخرى، راحت تدفع باطراف وقوى وشخصيات سياسية مرتبطة بها لاعادة طرح مشروع ما يسمى بالاقليم السني، حيث عقدت عدة اجتماعات بهذا الشأن برعاية اميركية في كل من دبي واسطنبول وعمّان واربيل، والملفت ان الاطراف السياسية التي رفضت التصويت على مشروع قرار اخراج القوات الاميركية هي ذاتها التي بادرت الى طرح مشروع الاقليم السني في هذا الوقت بالذات.
وثمة شيء اخر من المهم جدا التنبه له، الا وهو ان هناك مساعي اميركية مبكرة للبحث عن بدائل في حال ارغموا فعلا على الخروج من العراق، تتمثل في العودة اليه تحت غطاء قوات تابعة لحلف شمال الاطلسي (الناتو)، يمكن ان تأتي الى العراق بالتنسيق والاتفاق مع الحكومة العراقية، تحت ذريعة مساعدته في تعزيزه امنه والتصدي للارهاب.
وكذلك فأن واشنطن قد تتحرك بوتيرة اكبر لاعادة احياء الخلايا والمجاميع الارهابية النائمة في العراق، مع استمرار الضغوطات للاسراع بأختيار رئيس وزراء بديل عن رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، يكون قريبا منها، ومنسجما مع توجهاتها، وليس كما عبد المهدي المتشدد في مواقفه وقراراته حيالها.
ولعل الرؤية المتبلورة في العراق، تتمثل في انه مهما تعددت وتنوعت الوسائل والادوات الاميركية، ومهما كانت محكمة وقوية، فأنها لن تصمد طويلا امام المواقف العراقية المتماسكة والصلبة والموحدة.