مع دونالد ترامب، تختار واشنطن اليوم الانخراط صلب المقاربة الروسية للملف السوري وذلك بالفصل والجزم حيال نقطة التباين الأساسية بين موسكو وواشنطن على مدى سنوات الأزمة والمتمثلة في مصير الرئيس السوري بشار الأسد.
من قلب العاصمة التركية أنقرة اختار قائد الدبلوماسية الأميركية ريكس تيلرسون إعلان الاستدارة الأميركية حيال الملف السوري باعتبار أنّ مصير الرئيس السوري بشار الأسد يعود تحديده حصرا إلى الشعب السوري.
كان تصريح وزير الخارجية الأميركية مسبوقا بإعلان مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بأنّ واشنطن ستركز جهودها على محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط فقط، ومتبوعا أيضا ببيان رسمي من البيت الأبيض صدر الليلة قبل الماضية مشددا على أنّ الشعب السوري هو صاحب الشرعية الوحيد في مصير الأسد.
ثلاثية من التصريحات الأميركية جاءت لتؤصل للمشكك قبل المصدّق بأنّ المقاربة الجديدة للبيت الأبيض تقوم على أساس محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط وتكوين دويلة كردية شمال شرق سوريا معاضدة لكردستان العراق وقصقصة النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والعراق دون دخول في حرب مباشرة مع طهران. تفتح القراءة الاستراتيجية للمسلكية الأميركية الجديدة زاوية تحليل متمثلة في إدراك أميركي عميق لاستحالة الجمع بين محاربة الإرهاب من جهة بما يعنيه من تجميع لكافة القوى المحلية والإقليمية والدولية وراء هدف ضرب المجموعات الإرهابية وبين السعي إلى الإطاحة بنظام سياسي من جهة ثانية.
اختار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مرحلة أولى استراتيجية غض النظر عن الجماعات الإرهابية في انتظار الجني السريع لثمار إطلاق يد الميليشيات الإرهابية في عملية إسقاط الأنظمة بادعاء إمكانية السيطرة على الإرهاب بعد انهيار الأنظمة والمؤسسات.
وهو النموذج الذي تم اعتماده في ليبيا فكانت النتيجة انهيارا للسلطة المركزية وتفريخا للجماعات الإرهابية التي باتت أقوى من كافة الحكومات المتعاقبة الأمر الذي حوّل ليبيا إلى حديقة ألغام شديدة الانفجار في وجه المنطقة المغاربية وشمال أفريقيا وأوروبا أيضا.
في مرحلة ثانية اجتبت إدارة أوباما في فترة ما بين 2013 ونهاية الولاية الرئاسية استراتيجية “الغموض البناء” ضمن المعادلة الثنائية التي صارت مستحكمة في الشرق الأوسط والقاضية بـ“قبول الإرهاب بنتائجه الكارثية غير المسيطر عليها” وبين التعامل مع أنظمة فساد واستبداد بتداعيات مدروسة على المنطقة والإقليم ككلّ.
اجتبى أوباما الرمادية في التعاطي مع الاستحقاقين، حارب الإرهاب بقفازات من حرير حيث التهمت وتمددت الجماعات الإرهابية في زمن إدارته على ثلثي الجغرافيا السورية والعراقية وناكف النظام السوري ضمن حدود استراتيجية مدروسة، ترضي حلفاء واشنطن في حرب الشرعيات المعلنة ولا تغضب الدب الروسي الذي تدخل بقوة صلب الجغرافيا الشامية.
وفي النتيجة ازداد الإرهاب تجذرا في سوريا والعراق وازداد النظام إصرارا في موقفه ومقاربته للمشهدية العسكرية والسياسية في البلاد.
مع دونالد ترامب، تختار واشنطن اليوم الانخراط صلب المقاربة الروسية للملف السوري وذلك بالفصل والجزم حيال نقطة التباين الأساسية بين موسكو وواشنطن على مدى سنوات الأزمة والمتمثلة في مصير الرئيس السوري بشار الأسد.
ولعلنا لن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّها المرة الأولى التي تعلن فيها واشنطن قبولها بالتفسير الروسي لبيان جنيف 1 الموقع في 30 جوان من سنة 2012.
مثل البيان المدونة التأسيسية الأولى لتسوية الأزمة السورية بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، ولكن في المقابل شكّل جنيف 1 بداية حرب التفسير بين جبهة الرفض وعلى رأسها واشنطن التي كانت تعتبر أنّ فصل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية تفضي في المحصلة إلى تنحي الأسد وأركان حكمه من السلطة فيما كانت جبهة الدعم وعلى رأسها موسكو تؤكد أنّ البيان لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى مصير الأسد الذي يبقى ضمن اختصاص الشعب السوري في انتخابات عامة وديمقراطية.
اليوم، تنضم واشنطن إلى المقاربة الروسية في قراءة نصوص مدونة التسوية السياسية للملف السوري، انطلاقا من جنيف 1 إلى جنيف 5 وليس انتهاء بالقرار الدولي 2254، وهو انضمام سيؤدي إلى انضمامات جديدة ابتداء من باريس التي عدلت مؤخرا عقارب تصريحاتها السياسية على الزمن الترامبي ليعمّ دول الجامعة العربية التي لن تردد في تعليق قرار التعليق ضد دمشق.
تستدير واشنطن باستدارة مصالحها وباستدارة التوازن الإقليمي والدولي في العالم، لا ثابت في العلاقات الدولية إلا للمصالح جلبا وللمفاسد درءا، أما الراهنين والمرتهنين لسراب ثبات موقف واشنطن في لعبة الأمم فلن يكونوا الأوائل ضمن طابور المغدورين الأميركيين، ولن يكونوا الأخيرين أيضا.
نقلا عن العرب