“وادي الفراشات” .. حين ضاقت السماء على الأرض

“وادي الفراشات” .. حين ضاقت السماء على الأرض

تفاجأت حينما انتهيت من الخمسين قصة، والتي شكلت قوام رواية (وادي الفراشات) لمؤلفها أزهر جرجيس، عندما وجدت ملاحظة في الصفحة 213 تقول: “النص نسج من الخيال، وأي تطابق أو تشابه في الأسماء والأحداث والأمكنة هو محض مصادفة غير مقصودة”.
هكذا يقول المؤلف دفعة واحدة، في حين ظلَّ انغماسي شديداً وأنا أتابع أحداث الرواية، صغيرها وكبيرها، وهي تتحدث عن واقع عاشه الشعب العراقي، عندما كان العراقي يستيقظ كل صباح لا ليعيش، بل ليقاوم. يقاوم الجوع، والذل، والسوق السوداء، والدواء المفقود، والكهرباء المنطفئة، والماء الآسن. يقاوم خيبة وطنٍ صار فيه الحلم كماليات، وصار الرغيف هدفاً استراتيجياً.
في زمن الحصار، كانت الدينار يُعدّ بالأكياس لا بالقيم. وكان الموظف يُسحق من الصباح إلى المساء ليعود آخر الشهر بأجر لا يكفي لعلبة حليب مستورد، إن وُجدت. الكرامة كانت تُباع على الأرصفة، بالتقسيط، مقابل حفنة من الدولارات أو كيس طحين.
الناس كانت تبتكر طرق البقاء: تخبز من النخالة، وتغلي الشاي ثلاث مرات، وتخلط زيت السيارات بزيت الطهي، وتزرع النعناع في علب السمن الفارغة على الشرفات.
كان الدواء حلماً لا يأتي، والسرطان لا يُعالج، والأطفال يموتون في صمت، كأنهم أرقام في نشرةٍ أممية. الأم كانت تقايض خاتم زواجها بحليب لطفلها، والأب كان يهرب من نظرات صغاره حين يسألون: “ليش ما عدنا جبن”؟
ومع ذلك، وسط هذا الخراب، لم يمت العراقي. كان يضحك رغم الغصة، ويعزف على العود أغنية، ويكتب الشعر في دفتر باهت. كانت الحياة تمشي على عكازين، لكنها تمشي.
في بغداد، خلال سنوات الحصار القاسية في التسعينات، لم يكن غريباً أن ترى رجلاً خريج جامعة، بملامح مثقفة، عينان تترقرق فيهما خيبات كثيرة، يجلس خلف مقود سيارة تاكسي متهالكة تجوب شوارع المدينة المكتظة بالغبار والحواجز والأسى. هذا ما كان يفعله عزيزعواد بطل الرواية.
كان يؤرقه زيارة المقابر، حيث إليها ينتهي الجسد الذي أنهكه الزمن أو المرض أو الحرب، والتي يلفها الصمت، بيد انها تنطق لمن يحسن الإصغاء، وتشكّل أرشيفات للوجع. بينما مع تناسخ الأرواح تبدأ الرحلة من جديد.
كان عزيز، الذي قضى ثمانية عشر شهراً في الخدمة العسكرية بكركوك، والتي كانت إلزامية وتحولت إلى مصير مفتوح على كل الاحتمالات ويعود إلى بغداد ليعمل في أرشيف دائرة الفنون ثم يتركه لكون أن ما يتقاضاه منه شحيح جداً، يبدأ يومه سائقاً للتاكسي مع طلوع الشمس، لا لأن الزبائن يكثرون في الصباح، بل لأنه لا يستطيع النوم، فالهموم لا تترك له فسحة للراحة. يلبس قميصاً نظيفاً رغم اهترائه، ويحرص على تسريح شعره بدقة، كأنما يصرّ أن لا يخسر ما تبقى من كرامته. يركب سيارة خاله جبران القديمة، يدفعها بروحه قبل محركها، وينطلق بين الطرقات، يبحث عن رزق اليوم. وفي قصص كل زبون يرى انعكاساً لقصته أو ما تشبهها.
يحمل في سيارته كتاباً قديماً من مكتبة خاله جبران، ربما رواية أو كتاب في تخصصه، يقرؤه في لحظات الانتظار الطويلة عند محطات الوقود أو أمام المدارس. حين يسمع خطاباً حكومياً يتحدث عن صمود الشعب، يبتلع الغصة ويكتم ضحكة ساخرة. هو لا يريد الصمود، يريد فقط أن يعيش حياةً تليق بتعبه، بشهادته، بسنوات دراسته التي قضاها في أروقة الكلية على ضوء الشموع أحياناً.
كان أكثر ما يؤلم عزيز، هو عندما تركته زوجته تمارا لشظف العيش وفقدها طفلها البِكر سامر، ومن ثم فقد طفله سامر ثانية. وفيما كان هو لا يستطيع شراء حذاء جديد، أو علبة دواء لزوجته المريضة، كان يرفض أن يمدّ يده، أو أن يهاجر. ظل يقاوم بصمت، يقود التاكسي كما يقود قدره، بعينين مفتوحتين على المرارة، وبقلب يحلم بأن يتغير شيء.
وادي الفراشات رواية مكتوبة بلغة أنيقة، وفيها سردٌ مزدان بالكثير من عناصر التشويق، تشُّد القارئ ليتابع الأحداث الغزيرة، التي تأتيه الواحدة بعد الأخرى..
وعندما أنتهت الرواية بصفحاتها ال 215، تمنيت أن لا تكون قد أنتهت. أردت أن أبقى مع عزيز وهو يقود سيارته في شوارع وأزقة بغداد، وقد ظل، بسيارته القديمة، جزءاً من ذاكرة المدينة، وحكاياتها الكثيرة التي لم تُكتب بعد.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=873518