لم أكنْ غريباً هنا ، على الرغم من غربتي فيه . فما رأيتُه قبلاً : كان محضَ دار كبيرة ، قصراً وارفَ الظلال ، منيفاً . كنا نعملُ على وضع باب حديد كبير في فتحة مستطيلة من السور المحيط به . بين القصر وجدران السور أفضية ٌ ستُحرثُ وتُسوّى لتغدو حدائق تزحمُ بالشجر والورد والثيل . استغرق وضعُ الباب يومين ، وكنتُ حسبَ ما تقوله ذاكرتي مُشرفاً على العمال ، اعنَى بعملهم وراحتهم ومأكلهم ومشربهم . اليوم انتهوا من وضع الباب في مكانه / كما لو كان باب حصن / . جدرانُ السور بعلو ثلاثة أمتار ، وكذا البابُ . حين حضر المُقاولُ / مُشرفُنا الأعلى / أبلغتُه بإنجاز الباب . التفتَ نحوي، وضع َكفّه اليمنى على كتفي اليسرى :/ لكَ ولهم مكافأة ٌ، واليوم نتسلم بقية َ تكاليف العمل / .
كنتُ على سطح الدار ، لا أدري كيف أكون هناك من دون دخول البيت والصعود الى سطح الطبقة الثانية من دون معراج ارتقيه . السطحُ واسع ٌ من نصفين . نصف مكتظ بالأراجيح ومربعات ومستطيلات خشب يمكن الصعود اليها عبر سلالم صغيرة ، ومن داخل المستطيل أو المربع يُمكن الانزلاق الى الأسفل خلل مضايق حديد ملساء . ارضيةُ السطح مبلطة ٌ بالرخام الصقيل . وثمةَ لُعَبٌ هنا وهناك : أحصنة ٌ صغيرة وبطات كبيرة يُمكنُ اعتلاؤها وهي تتأرجحُ أماماً وخلفاً . سياج السطح بعلو مترين ، تتخلله فتحاتٌ مُشبّكة اشبهُ بالنوافذ تُمكِّنُ الواقفَ الى جوارها أن يرى أفضية ً شاسعة تتصل بالأفق المُنطوي على مبان وطرق واشجار وحافلات تجيء وتروح . وسألتُ نفسي : تُرى لمَ لمْ يُتحْ لي رؤية ُ أحشاء البيت :غرفاً وصالات ومطابخ وحمّامات ؟ اعرفُ اني جئتُ مُتأخراً غبّ إنتهى البنّاؤون من عملهم . لكنّي صرتُ مُشرفاً على بناء السياج الخارجي المربع .ما زلتُ على السطح برفقة المقاول الذي ينتظر حضور صاحب الدار ، لكنْ لمَ على السطح ؟ هزّني بمرفقه : سيحضرُ مع العمال يحملون صواني الطعام ، وسنشترك معاً في هذه الوليمة التي أقامها لنا جميعاً .أمسك بيدي وأخذني الى الطرف الثاني غير المرئي من مكاننا ، ثمة مائدة ٌ طويلة من حولها عددٌ من الكراسي يكفينا جميعاً .وما أنْ صرنا جوار المائدة حتى ظهر صاحبُ الدار من مكان ما ، ووراءه العمالُ . كانوا يحملون صواني الطعام المليئة بالرز واللحم والكباب والسمك والدجاج والفاكهة . وضعوها على المائدة جوار الصحون والملاعق واوان الزجاج المليئة بالشراب والعصير . جلس الجميع ، كان صاحبُ الدار يجلس بيني وبين المقاول . وانغمسنا في تنام الطعام واحتساء الشراب ، انتهينا من الأكل والشرب كما لو انتهى كلُّ شيء في رمشة عين . اختفت الصحون والصواني واواني الشراب ، ونُظفتَ المائدةُ ، ثم حضر الشاي ، شربتُ استكانتين . وتذكرتُ مقاهي بغداد الخسينيات والستينيات وشايها المهيّلَ الأسود. من زمن بعيد لم احتسِ مثله . اثناء ذلك كان المقاولُ وصاحب الدار يتبادلان الحديث همساً . بهمسٍ واطيء كان الرجلُ يُحدّت مقاوله . أخرج دفتر صكوكه ، وقطع ورقة ً ناوله إياها . …. واختفى / غبئذ ٍ/ المشهدُ برمته . بقيتُ وحدي على السطح . عدتُ الى الطرف الآخر الذي وجدتُني فيه ، حيثُ الأراجيحُ وهياكلُ التزحلق والحصن والبطات . رمتُ مغادرة السطع فلم استطع . فليس ثمة َ مخرج يأخذني الى الخارج .
فجأةً ظهرتْ / مَنْ تكونُ ؟ / سألتُ نفسي . أجابتني عبر ابتسامتها : / ابنة ُ مالك الدار ، جئتُ أدلّك على النزول ، لكنْ، دعْني أتأرجحْ قليلاً / ساعدتُها على ارتقاء الأرجوحة ، جلستْ، مدّتْ رجليها ، وأمسكتْ بالحبلين على الميمنة والميسرة . طلبت مني أن ادفعها وفعلتُ . تحرّكتْ أماماً وخلفاً ،علتْ وهبطت . تعالت كركرتُها : كركرة ُ الفرح . ولأني اقفُ الى جوارها فكان مرأى ساقيها من أجمل ما رأيتُ .وترتفعُ حاشية ُ الفستان وتبينُ القذمان داخل خُفّين ابيضين . كانت تشبهُ دُمية جميلة أراها صعوداً ونزولاً . لا أدري كم من الوقت مضى علينا . اوقفت الأرجوحة عند طلبها . وساعدتُها على النزول . ولئلا تسقطَ احتضنتني ، سحبتُ نفسي الى الوراء وانسحبت معي .ثمّ …. سقط كلانا على البلاط الصقيل . لم نتأذَ ، كان السقوط ُ برفق . وتمدّد كلانا برهة ً جوار البعض نتطلع الى السماء . بعدئذ التفّ كلٌّ منا تجاه الثاني ، صرنا مُتقابلين ، أنا على جنبي الأيمن ، وهي على جنبها الأيسر .
أتعرفُ ، قالت مازحة : / لأول مرّة اقتربُ من غريب بهذا الشكل ، وأشمُّ رائحته / بعد قليل قلتُ : / وأنا كذلك ، لكنّ حظي أوفرُ من حظكِ / سألتْ: كيف / لأني لم أحظَ بمرأى هذا الجمال قبلاً ، أنتِ بهيّة خارقة / وأنتَ كذلك ، فلم اقتربْ من رجل بهذا القدر / مدّتْ يدها ولا مستْ وجهي ، ثمّ استقرّت أنملة ُ سبابتها على شفتيّ : ما الذي جاء بكَ الى هنا؟ / لمَ تسألين ؟ / أنتَ لستَ مثلهم / مثلَ مَنْ ؟ / هؤلاء العملة وكذا طبيعة العمل / أنا في العطلة الصيفيّة ، آثرتُ أن اعمل وأدّخرَ شيئاً من المال ، والبداياتُ تبدأ دوماً من هنا ، فليس كلُّ عظيم ارتقى ملاذ عظمته من اللاشيء / نعم ، فهمتُ ، كأنّي بكَ تقولُ هذه بداية ُ الطريق / أنتِ ذكيّة / ومن حسن حظي أني تعرّفتُكَ ، ولأني وحيدةُ أبويّ ، لذلك يحرصُ أبي عليّ كثيراً ، هلمّ نغادرْ ، اخشى أنّه يراقبنا من مكمن ما / نهضتُ ، ساعدتُها على النهوض ، سألتني : / هل ذاكرتُك قويّة ؟ / احاولُ أن اتذكّرَ ما اسمعُ / إذاً ، احفظ رقم هاتفي ، وفي وسعك أن تتصلَ بي ، فأنا في السنة الأخيرة في كلية الهندسة ، وأنتَ؟ / في السنة الأخيرة من الصيدلة / إلهي ما اروعَكَ / …. أمسكتْ بيدي ودلّتني على ثغرة في السياج لم الحظها قبلاً . منها اندلقنا نازلين ِ الى الحديقة . ثمّ رافقتني الى الباب الذي انجز هذا اليوم . وابتعدتُ عنها ، لكنّها تركتْ حريقاً فيّ . خلال سنتين كنا صديقين نلتقي سرّاً ، ثمّ علنا بعد تخرّجنا ..ولن استطيعَ ، مهما اوتيتُ من قدرة بلاغية وتعبيرية ، أن اصوّر مشاعرنا خللَ ساعات اللقاء والفراق ..لكنّنا خططنا معاً بمهارة وعقلانية لأن نكون معاً . في السنة الثالثة تزوجنا . ولأول مرّة كان لنا جناح خاص داخل ذلك القصر .وفيه تمت مراسيمُ الزواج الأسطورية ، ورأت امي خلال دموع الفرح ساعة زواجنا ، قالت : / اذا متُّ سأموتُ مطمئنة وسعيدة ، لكن كم بودّي لو ارى احفادي واضمّهم الى قلبي / .. ذي هي الآن حاملٌ في شهرها الأخير ، وكلنا ننتظرُ ساعة ولادة التوأمين الذكرين . أنا لا اهلَ لي سوى أمي ، ومن حسن حظها أنّها تحظى بمحبتنا جميعا .
لا أدري أيّة مصادفة جمعتنا لنكوّنَ اسرة تعيش في كنف محبة ابويها وامّي ….
* – في سدم الأحلام يُجدّدُ بعضُ الناس / زماناً ومكاناً / صياغة آدميتهم . فبعد أن وهن العظمُ منهم وشبعوا سنينَ حياة ٍ يعودون الى أيام شبابهم في سرابيل احلامهم ، او يُعادُون مرغمين لرسم ايقاعهم لا وفق العقل والمنطق الآنيين . بل من لحظة البدايات ِ لا حسب الثوابت الدنيوية ، لكنْ ، نزولاً عند الرغبات الطائشة . وما هذه اللوحة سوى استراحة يُمضيها العقلُ بعيداً عن نكد الجسد والوقت يلوّنُ زمنَه الرتيب بمُعطى لا وجود له الا في ساحة الحلم .