23 ديسمبر، 2024 11:02 ص

بعيداً من الدعاية السياسية التي مارستها المكائن الديبلوماسية والإعلامية الإيرانية، لا يرى الشارع الإيراني في الاتفاق النووي بين بلاده والغرب سوى وعد بمستقبل أفضل يتحقق فيه الرخاء والأمان الاقتصادي في بلد يشكل الشباب فيه النسبة الأكبر من تركيبته السكانية ومتأثر بدرجة كبيرة بقيم العولمة ونمط الحياة الذي تبشر به، وهو غير مستعد للتنازل مرّة أخرى عن هذا الحلم، ولا تعنيه كثيراً من مكونات استراتيجية الملالي ومشروعها التوسعي.

على ذلك، فلحظة إعلان التوصل إلى الاتفاق تجسد نقطة التفارق بين إيران المستقبل وإيران الماضي، بين أحلام صانع السياسة الذي صمّم مشروعاً خيالياً من دون التوقف قليلاً عند حسابات التكلفة والجدوى وسماه زوراً «مشروعاً استراتيجياً» فيما لم يكن سوى نمط من الاستثمار في العبث، وبين إمكانات الشعب وقدراته على التحمل وميله إلى الاهتمام بتفاصيل حياتية صغيرة لكنها واقعية بمقدار قدرتها على صناعة الواقع وترتيب مقتضياته. وفي المحصلة، الاتفاق هو أول انتصار للشعب الإيراني على نخبته السياسية التي هزمته على مدار ثلاثة عقود في جبهات الخارج والداخل.

عملياً، لم يكن الاتفاق أكثر من ضبط جنائي تعترف فيه إيران بأنه جرى ضبطها متلبسة في حال لصوصية لتجاوز قواعد القانون وتجري محاكمتها بناء على هذه التهمة. والاتفاق مجرد مضبطة تحدد وضع إيران في السنوات المقبلة بصفتها طرفاً متهماً وغير مسؤول ومشكوكاً في تصرفاته يجري وضعه تحت المراقبة ويقضي مدة العقوبة. هذا هو بالضبط منطوق الاتفاق ومعناه، بعيداً من البروباغاندا، وهو بمعنى ثانٍ ترتيب أوضاع طرف مهزوم في معركة، لا يختلف كثيراً عن وضعية عراق صدام حسين في اتفاق النفط مقابل الغذاء.

ومن المعلوم أن إيران وافقت على الاتفاق عندما وصلت إلى حدود دولة فاشلة. كل عناصر الفشل أصبحت متوافرة وعلى شكل طبقات عميقة تضرب البنى كافة، من بنية سياسية ثيوقراطية متخلفة وبنى اجتماعية مفككة وعناصر اقتصادية آيلة إلى النضوب وأمّة فقدت زخمها جراء استنزافها. وتدرك النخبة السياسية أن حلم إيران النووي تبخر نهائياً وأن الشروط التي حققت في ظلها بعض الشطحات السلبية لن تعود، فلا المجتمع الإيراني مستعد للعودة إلى ظروف شد الأحزمة على البطن ولا القوى السياسية والمدنية الإيرانية من الممكن أن تتنازل عن الشفافية في إدارة شؤون البلاد. والمؤكد أنه بعد إغلاق الملف النووي ستكون إيران على عتبة فتح كثير من الملفات الداخلية في السياسة والاقتصاد والبني القانونية والإصلاحات الإدارية.

المؤكد أيضاً أن إيران باتت تحت مجهر الرقيب الغربي، وكل تفاصيل نقاط قوتها وضعفها هي بيانات جرى تخزينها وتحليلها وتقدير الموقف في شأنها، وستكون بيد صانع القرار الغربي. والسلوك التفاوضي الغربي مع إيران الذي أجبرها على التنازل، يؤكد أن الغرب يعرف تماماً أين ومتى وكيف تتنازل إيران. لم تكن تلك رهانات بمقدار ما كانت معطيات حاكمة جرى على أساسها تقرير نمط التفاوض وقوائم الشروط وطبيعة التنازلات المحتملة.

تحاول الماكينة الإعلامية الإيرانية الترويج لقائمة انتصارات حصّلتها على خلفية اتفاقها مع الغرب، وأنّ هذه الانتصارات ستتم ترجمتها من خلال تثبيت النفوذ الإقليمي المزعوم. لكن ذلك لا يعدو سوى كونه محاولة لتجديد مناخ الأوهام وتعويضاً عن هزيمة موصوفة للمشروع الإيراني، فالنفوذ الذي يجري الحديث عنه ليس سوى جزر معزولة ومحاصرة لحلفاء منهكين (الحوثيون وبشار الأسد و «حزب الله»)، كما أن إيران نفسها لم تعد تملك من القدرة الكافية لإدارة هذا التمدد بعد أن أنهكت أذرعها والشعوب التي قاتلت تحت رايتها. وحتى مسألة المقاومة وقضية فلسطين التي شكّلت عنصر قوة ورافعة المشروع الإيراني بوصفه مشروعاً يملك رؤية «استراتيجية»، تهاوت بعد الغرق في الدماء السورية وانكشاف السياسة الإيرانية ببعدها الطائفي الضيق. وانتهت «ثورة المظلومين» بالاستقواء على المظلومين ومناصرة المجرمين.

هل كانت تنتظر إيران أن تفوّضها دول العالم للهيمنة على الشرق الأوسط وتمنحها صكوك ملكية؟ وهل تقدم لها أصلاً أكثر مما قدمته لها في السابق من غض نظر وتسليم العراق على طبق من ذهب واستباحة سورية وإشعال اليمن وتحطيم لبنان؟ ما الجديد الذي يمكن أن تحصل عليه؟ وماذا فعلت بما حصلت عليه؟! لا تدرك طهران أن إحدى آليات إخضاعها وتدجينها تكمن في هذا العنصر تحديداً، المسمى زوراً بـ «النفوذ الإقليمي»، فكل الساحات مفتوحة لها لاستنزافها ومن دون تفاهمات من فوق الطاولة أو من تحتها.

لكنْ بعيداً من كل تلك التهويمات التي تحاول تعميمها مكائن إيران الإعلامية، ثمة حقيقة ساطعة أفرزها الاتفاق النووي، مفادها أن الطرف الآخر (الدول الست) حقّق كل أهدافه التي رسمها في نص الاتفاق ونجحت استراتيجيته التفاوضية بجدارة. أما أهداف إيران، فإنها تحتاج جولات تفاوضية طويلة ومساراً مؤلماً من التنازلات، وهذا هو الفرق بين وضعية المنتصر والمهزوم في الاتفاقات.