الوجه الأمثل لمعرفة الحقائق لا تكتب له الاستقامة إذا كان تابعاً لنوع من العلم القاصر، ولهذا كان من الأولى أن يبحث الإنسان عن السبيل الذي يتقارب مع ذلك الوجه مع ملاحظة نبذ التقصير الطارئ جرّاء اتخاذه نوع العلم الذي أشرنا إليه، وإذا ما حصل على ذلك فمن الطبيعي أن يكون قد ساعد في إنقاذ الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولهذا اقتضت حكمة الله تعالى أن تسيّر الحياة الدنيا على إظهار جميع الأدلة والبراهين التي تدعو إلى الكدح إليه سبحانه على نحوٍ لا يضمن إبقاء الحجج بعيدة عن اللوازم المؤهلة للرجوع إلى دين الحق، وأنت خبير من أن الوجه المقابل لهذا النهج سوف يجعل الإنسان متمسكاً بالمعاذير التي تباعد بينه وبين العقاب الذي ينتظره، ولهذا السبب أرسل الله تعالى رسله وأنزل معهم الكتاب وأيدهم بالآيات البينة لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل. فإن قيل: ما هي الشروط التي يتم بموجبها اختيار الرسل؟ أقول: لا نستطيع الوصول إلى تلك الشروط لأن العلم بها يكون مرده إلى الله تعالى، كما بين ذلك في كثير من المواضع، كقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام 124. وكذا قوله: (وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم… أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) الزخرف 31- 32. وقوله: (يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) آل عمران 74. وقريب منه البقرة 105.
من هنا ندرك أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى العلم الناتج عن التحكم بالأفعال وما يتفرع عليها، أو يفرق بينها وبين الأصل الراجح الذي يمهد له معرفة السبل الكفيلة في إنقاذه وتوجيهه إلى الصراط المستقيم، ولهذا تم اختيار الرسل من بين سائر الناس وفق منهج الاصطفاء الذي لا يحيط به الإنسان على الرغم من إيجاد الحلول المناسبة لكثير من القضايا المحيطة به دون المنهجية الملازمة للتفريق بين تلك الحلول وبين الدعوة إلى الله تعالى والتي من أهم مصاديقها الإيمان والعمل الصالح، وهذا الأمر لا يكتب له النجاح إلا من خلال المعارف اليقينية التي يرفد بها الله تعالى عباده بواسطة الرسل، كما في قوله: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) الحج 75. والرسل كما في صريح الآية هم من الناس دون أن تكون هناك علامات فارقة بينهم وبين الأقوام المرسل إليهم إلا الاصطفاء الذي يختص الله سبحانه بمعرفة نتائجه، ولذلك بين بشريتهم في قوله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً) الفرقان 20. وكذا قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب) الرعد 38. وهناك آيات كثيرة بهذا المعنى.
فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فما هي الصفات التي تميّز بها الرسل عن المرسل إليهم؟ أقول: إن ما يميّز الرسل عن أقوامهم يرجع إلى الأمانة في التبليغ والصدق في القول، ولهذا أثنى الله تعالى عليهم في كثير من المواضع، كما في قوله: (ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علياً) مريم 50. فإن قيل:
هل كان هذا الجعل تكوينياً أم تشريعياً؟ أقول: هذا النوع من الجعل هو جعل تشريعي، بدليل قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً… وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) مريم 54- 55. وكما هو ظاهر فإن هذه الصفات تدل على أن الأعمال التي كان يقوم بها إسماعيل لو كانت من الأعمال التكوينية لما كان في مدحه وجه، وبالإضافة إلى ذلك نرى أن الله تعالى قد شدد عليهم الأمر في حال عدم إيصال الرسالة على الوجه المطلوب، وهذا يدل على أن اختيارهم لم يسلب، ويشهد لذلك قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل… لأخذنا منه باليمين… ثم لقطعنا منه الوتين) الحاقة 44- 46. وكذا قوله: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الأنعام 88. وقوله: (ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً… إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) الإسراء 74- 75.
فإن قيل: ذكر في الأثر أن هناك من ادعى النبوة دون أن ينفذ فيه هذا التهديد؟ أقول: الكلام في الآيات يختص بالأنبياء أصحاب الرسالات دون أولئك الذين ادعوا النبوة زوراً وبهتاناً، ولهذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يرفد الأنبياء بمختلف الطرق التي تمهد لهم إيصال الرسالة على الوجه المراد منها، وكان أهم تلك الطرق تزويدهم بالكتب الحاملة لمنهج الله تعالى. فإن قيل: لم يزود جميع الأنبياء بالكتب فكيف وصل المنهج لجميع الناس؟ أقول: لم تمر الأرض بمرحلة من المراحل دون أن يكون فيها كتاب يرشد إلى الحق لا سيما بعد فترة النبي نوح (عليه السلام) باعتباره صاحب أول كتاب، ولهذا ترى أن من جاء من بعده من الأنبياء قد حكم بكتابه، وهذا يجري في المراحل الأخرى، أي من بعد إبراهيم وموسى وعيسى وصولاً إلى النبي محمد (ص) بمعنى أن من جاء من بعد إبراهيم حكم بالصحف التي أنزلت عليه ومن جاء بعد موسى حكم بالتوراة وهكذا. فإن قيل: وماذا عن الزبور الذي أنزل على داود؟ أقول: حكم داود (عليه السلام) بالتوراة لأن الزبور لم يكن كتاب أحكام.
فإن قيل: ما هي الحكمة من إنزال الكتب؟ أقول: الحكمة من إنزال الكتب تشتمل على الحكم بين الناس وإرشادهم إلى الطريق الصحيح إضافة إلى إزالة الاختلافات الناشئة بينهم، وذلك بسبب تباعد الفترات بين الرسالات، وكذا وضع الأدلة والبراهين التي تؤيد ما جاء به الأنبياء مما يجعل العدل ينتشر بين الناس، ولو ترك الله تعالى الناس دون إنزال الكتب لأصبح الحق باطلاً والباطل حقاً، وبذلك يعم الجهل في أرجاء الأرض، وهذا ما نلمسه اليوم بسبب ابتعاد الناس عن منهج الحق سبحانه، ومن هنا كان إنزال الكتب مقترناً بالميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط، ولا يتم هذا الأمر إلا بتعليم الأنبياء الناس الكتاب والحكمة وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في كثير من متفرقات القرآن الكريم، كما في قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة 213. وكذا قوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد 25. وقوله: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران 164.
من هنا يظهر أن الكتب التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء لها فوائد كثيرة، ولذلك فقد امتن سبحانه على بني إسرائيل بأعظم النعم، ألا وهي نعمة إيتاء موسى الكتاب والفرقان، لما في ذلك من هداية لهم في
الدنيا والآخرة، ولهذا قال جل شأنه: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) البقرة 53. والكتاب المشار إليه في آية البحث هو التوراة، أما الفرقان فهو عطف تفسير على الكتاب، إي إن الكتاب متضمن للفرقان، والفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والحلال والحرام والحسن والقبح وما إلى ذلك من أوجه التفريق، أما احتمال أن يكون الفرقان عائداً إلى الآيات التي جاء بها موسى فهذا غير سديد، باعتبار أن تلك الآيات فيها نوع من الإعجاز، وهذا لا ينطبق على كتاب التوراة لأنه منهج للحياة وهناك فرق بين المنهج والمعجزة، ولا يجتمع الإعجاز مع الكتاب إلا في القرآن الكريم، لأنه الكتاب الوحيد الذي يحمل الإعجاز والمنهج في آن واحد، وبهذا يكون كتاب التوراة متوارثاً لدى جميع الأنبياء الذين أرسلوا من بعد موسى، أما الفرقان فهو ما يفسر به الكتاب كما بينا، ويدل على ذلك قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتقين) الأنبياء 48.
وعند تأمل متفرقات القرآن الكريم يظهر أن معنى الفرقان قد يصدق على القرآن أيضاً، كما في قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) الفرقان 1. أما في حال تفريق المصطلح ونسبته إلى أصل آخر خارج المعنى المتعارف عليه، فهذا من باب التوسع، كما في قوله تعالى: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير) الأنفال 41. من هنا نعلم أن معنى الفرقان هو اسم آخر للتوراة حسب ما يتضح من سياق آية البحث دون البحث عن دليل آخر خارج القرآن، وذلك لأجل التفريق بين الآيات التي جاء بها موسى وبين الكتاب، باعتبار أن الثاني لا يشتمل على الأمور الخارقة للعادات، وهذا لا يتناسب مع الآيات الأخرى التي تفيد معنى الإعجاز الملازم لتبيان الحقائق التي جاء بها موسى (عليه السلام) وبهذا يكون الكتاب هو المنهج المكتوب في التوراة أما الفرقان فهو كالمفسر لذلك المكتوب اعتماداً على نوع التفريق الذي أشرنا إليه في معرض حديثنا.
وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) الأنفال 29. أي إن اتباعكم للهدى يجعلكم على علم من أن هناك فرقاً كبيراً بين الوعد والوعيد والجنة والنار، وما يترتب على ذلك من الحجج المؤدية إلى الهداية المبينة في الكتب التي أنزلها الحق سبحانه. فإن قيل: إذا كان الفرقان من سنخ التوراة فهذا يعني عطف الشيء على نفسه، وهذا النوع من العطف غير جائز؟ أقول: يصح عطف الشيء على نفسه إذا كانت فيه مزية أخرى لا يستدل عليها إلا بهذا النوع من العطف وفي القرآن الكريم ما يدل على ذلك، كما في قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98. وكذا قوله: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) الأحزاب 7. وقوله: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) الرحمن 68.
من كتابنا: القادم على غير مثال