23 ديسمبر، 2024 6:30 ص

وأخيرا وقع الاتفاق النووي

وأخيرا وقع الاتفاق النووي

شكل مجيء الشيخ الدكتور حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية نقطة فارقة بالنسبة إلى إدارة أوباما، لتفتح الملف النووي الذي كان مغلقاً بإحكام.
من يعرف الإدارة الأمريكية، وما تحمله من عداء الشديد للنظام الثوري الذي أسّسه الإمام الخميني رحمة الله عليه، وما بذلته أمريكا من جهود وسياسات لتقويضه، على مختلف المستويات، يُدرك أن ثمة كيداً، أو هدفاً، ملغوماً وراء فتح الملف النووي والاستعداد للتوصل إلى اتفاق لا بدّ من أن يتضمن رفعاً للعقوبات المالية والاقتصادية عن إيران، وهو ما يمثل هدفاً رئيساً لإيران من وراء القبول بفتح ملف المفاوضات حول برنامجها النووي. طبعاً ليس من دون ثمن وشروط مقابلة تُنتَزع مقابل رفع تلك العقوبات. ولكن هذه الأخيرة ستخضع لخطوط حمراء صارمة وضعها المرشد الأعلى السيد الإمام الخامنئي. مما يجعل عملية المفاوضات عسيرة وشاقة وطويلة الأمد. ومن ثم لا تسمح بألاّ تكون كفة إيران راجحة على مستوى بنود الاتفاق نفسه إذا ما عُقِد.

وهذا الذي حصل فعلاً في ما حمله الاتفاق من محتويات، وفي ما سبق ودفع من معارك قاسية في المفاوضات حول كل بند من بنوده، وصولاً إلى التدقيق في قراءة مسوّدته قبيل التوقيع عليه. وكان من الممكن أن تطول المفاوضات أكثر حتى بعد يوم 14/7/2015، الموافق 27 رمضان 1436هـ وهو اليوم الذي وُقّع فيه على الاتفاق.

وخلاصة، ولندع جانباً تصريح محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران “بأن الكل خرج رابحاً في هذا الاتفاق”، فإن إيران هي الرابح الأول على مستوى الاتفاق نفسه. لأن الملموس المباشر والسريع يتمثل في رفع العقوبات المالية والاقتصادية فيما المقابل يظل تحت السقف الذي حدّدته إيران في ما يتعلق بالتخصيب النووي للأغراض السلمية والعلمية والبحثية. وإذا كان ثمة ما يُقال بالنسبة إلى ما فرض من مراقبة وتفتيش فهو خاضع للتطبيق والمستقبل والعض على الأصابع.

ولهذا فإن أوباما وإدارته يراهنان على الهدف الكامن من وراء فتحهما للملف النووي ورغبتهما في إنجاح المفاوضات، والتوصل إلى الاتفاق، ولو بخسارة، على مستوى الاتفاق نفسه في مصلحة إيران، كما أُشيرَ إليه أعلاه. أما ذلك الهدف فهو مفاعيل هذا الاتفاق على الداخل الإيراني نفسه، ويُراد منها مواصلة عملية التآمر ضدّ النظام الذي أرساه الإمام الخميني وثبّته بدقة عالية، وقدرة ظاهرة، الإمام الخامنئي. فإدارة أوباما وأوباما يريدان من هذا الاتفاق أن يفعل في الداخل الإيراني ما فعلته زيارة نيكسون للصين، أو ما فعله الانفتاح على غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي. وهذه النقطة تناولتها، بشكل أو بآخر، تعليقات وتحليلات، بصورة مباشرة وغير مباشرة، ولو بصورة محدودة وخجولة في أكثر الأحيان. وذلك لأنه رهان غير مضمون النجاح، إن لم يكن الفشل فيه هو الغالب عليه. ولكن لا بدّ من أن ترفع اليقظة داخل إيران من الكيد الأمريكي الذي وراء توقيع الاتفاق.

هنا لا بدّ من أن يلحظ الفارق بين قوّة أمريكا وتماسكها الداخلي ورسوخ استراتيجيتها وأولوياتها في الحالات المشار إليها مع الصين والاتحاد السوفياتي من جهة وبين ضعفها وتفككها الداخلي (على الأقل بين الرئاسة والكونغرس) وارتباك استراتيجيتها وأولوياتها في الوضع الراهن من جهة أخرى.

       فهل هنالك ما أشدّ دلالة من وقوف إيران، وهي في الأساس من دول العالم الثالث، في المفاوضات، نداً بند مقابل خمسة+ واحد، وذلك بالرغم من أن روسيا والصين كانتا إلى جانبها، وبالرغم من انحسار سطوة أمريكا وأوروبا عن النظام العالمي. ولكن مع ذلك فهو مشهد له دلالته ومغزاه في ما يتعلق بما آلت إليه موازين القوى بين أمس واليوم.

 بل أن إيران واجهت أمريكا وأوروبا في النقطة الأقوى الباقية عندهما على مستوى موازين القوى ألا وهي المقاطعة الاقتصادية والسيطرة المالية. وهو ما ترجمه الاتفاق في بنوده المتعلقة برفع المقاطعة الاقتصادية والحصار المالي مع أولى خطوات تنفيذ الاتفاق. وهي سابقة إذا ما تكرّرت على المستوى الدولي، أي كسر سلاح المقاطعة الاقتصادية والحصار المالي، فستكون تعزيزاً هاماً لما حدث من خلل في ميزان القوى العسكري والسياسي في غير مصلحة أمريكا. طبعاً مع تحييد القدرة النووية التدميرية من جهة وغلبة العجز العسكري عن الاحتلال وتثبيت السيطرة كما النفوذ السياسي من جهة ثانية.

وبالمناسبة، ثمة جانب في هذا الاتفاق بعد أن عُقِدَ، هو انعكاسه على زيادة عزلة الموقف الصهيوني دولياً، إذ انفرد نتنياهو وحده من بين كل دول العالم، في الهجوم على الاتفاق وما خلع عليه من أوصاف وإبداء من مخاوف. وهذه نقطة إيجابية في مصلحة الاتفاق والإنجاز الإيراني من ورائه.

على أن السؤال الكبير والخلافي يتمثل في قراءة نتائجه على مستقبل العلاقات الإيرانية بكل من أمريكا وأوروبا كما على مستقبل الأوضاع في البلدان التي تلتهب فيها الصراعات وفي مقدمها سورية.

ثمة اتجاه عام ينظر إلى أن الاتفاق سيفتح الطريق لتفاهم إيراني- أمريكي – أوروبي على مختلف القضايا التي كانت موضع صراع حاد وتناقضات عاصفة. وقد يذهب هذا الاتجاه إما إلى تصوّر تشكّل محاور جديدة وإما إلى دخول الصراعات الملتهبة أو بعضها أو أكثر في طريق المساومات والحل.

إن هذا الاتجاه يخطئ في تقويم طبيعة التناقض بين أمريكا والنظام الذي أسّسه الخميني وثبّته الخامنئي، ولا سيما في ما يتعلق بالموقف من الكيان الصهيوني، أو الموقف من سياسات “الشيطان الأكبر” (الاستكبارية في العالم كله)، كما يُغفل هذا الاتجاه ما ستمارسه أمريكا من تآمر في الداخل الإيراني بعد الاتفاق.

هذا الاتجاه لا يلحظ ما دار من صراعات مع إيران داخل المفاوضات نفسها وما هي الشروط التي كان يريد المفاوض الأمريكي – الأوروبي فرضها على الاتفاق وتراجع عنها مؤقتاً من أجل الاتفاق. مما يدل على أن تطبيقه سيكون نقطة صراع مستمرة ولن يمضي سهلاً ميسّراً. ثم هو لا يلحظ أن المفاوضات انحصرت بالبرنامج النووي ولم تتطرق إلى القضايا الخلافية الكبرى، والتي ما زالت خلافية، بل وتفجيرية، أيضاً، لاحقاً بين إيران الخامنئي وأمريكا أوباما، وما بعد أوباما بالتأكيد. وهذه النقطة يجب أن تُحصر في التقدير للموقف، بعيداً من أمانيّ البعض أو تغليب الرغبات.

فما قبل الاتفاق سيستمر بعده، بل سيتفاقم ما لم يجد حلاً داخلياً – عربياً – إيرانياً- تركياً.