هيرتا مولر والديكتاتورية:
“كان الموضوع المركزي في كتبي هو الديكتاتورية، لم أعرف شيئاً آخر، لم أر شيئاً آخر، وأنا مستمرة مع هذا الموضوع”. هذا ما تقوله الروائية هيرتا مولر المولودة في رومانيا ( 1953 ) من أصول ألمانية، والحائزة على جائزة نوبل للآداب ( 2009 ). كان والدها في ضمن تشكيلات الحرس النازي إلا أنها اختارت أن تكون شيئاً آخر إلى جانب أولئك الذين يعانون من الفاشيات والديكتاتوريات، ومن الظلم والقهر والاستغلال. وبعد الحرب العالمية الثانية سيقت والدتها مع مائة ألف شخص آخرين من الأقليات الألمانية إلى معسكرات العمل القسري ( السخرة ) في الاتحاد السوفياتي السابق حيث عدّ ستالين هؤلاء مسؤولين بطريقة ما عن مآسي الحرب. وقد صوّرت مولر هذه التجربة المريرة في أحدث رواياتها ( أرجوحة النَفَس/ 2009 ) مستلهمة لا تجربة والدتها، هناك، فحسب، بل ما حكاه لها الشاعر أوسكار باستيور الذي أمضى في تلك المعسكرات خمس سنين.
في المرحلة التي سبقت مغادرتها رومانيا وإلى الأبد ( 1987 ) كانت حذرة، تكتب بلغة متكتمة، نصف مواربة.. كان عليها أن تراوغ الرقيب وأن تخدعه من غير أن تقع في محظورها الخاص: ممالاة الديكتاتورية في عهد تشاوتشيسكو. وطُردت من أول وظيفة لها لأنها رفضت التعاون مع أجهزة الأمن الرومانية في أن تكون مخبرة سرية لها. وحين أصدرت كتابها الأول في رومانيا، وفيه تتحدث عن بؤس حياة الفلاحين في القرى ومنها قريتها التي ولدت وعاشت فيها فترة طفولتها وشبابها، قالوا لها أنها تبصق في الحساء.
تكلمت في أعمالها عن القسوة والقحط الروحي والخواء الوجودي، عن وجود الإنسان المقلق، غير الآمن من غير سند أو حماية. وفي رأيها أن الديكتاتوريات تسلبك أشياء لا تعوّض.. إن كلمات مثل الصداقة والحب يتبدل معناها مع خراب الروح: “فحينما تُستنزف معنوياً يستحيل أن تحتفظ بتلك العلاقات سليمة مع الآخرين”.
عانت من غربة ذات أبعاد مركّبة.. فمن جهة كانت الأقلية التي تنتمي إليها مضطهدة ومهمشة، ومن جهة أخرى لمّا تركت قريتها إلى المدينة لدراسة الأدب المقارن أحست بنبذ مجتمع المدينة لها كونها قروية. ومن جهة ثالثة خبرت محنتها مع أبناء موطنها بالولادة ( رومانيا ) في ظل ديكتاتورية تشاوتشيسكو. ولهذا شعرت دائماً بأنها الآخر، المقصي، وغير الموثوق فيه، والمهدد بالاعتقال في أية لحظة. تقول: “لستَ أنت من تحدد نفسك كمنشق، بل النظام هو من يصنّفك ويختار لك هذه الصفة، فتصير كذلك”. ومثل هذا الجو المرعب والقاتم يقترب من ذاك الذي صوّره كافكا في رواياته. ومن هنا كانت الموضوعات الأثيرة التي عالجتها مولر في أعمالها السردية هي الغربة والهوية والاقتلاع وامتهان الكرامة والخوف.
درست بين عامي 1973 و1976 اللغتين والأدبين الألماني والروماني بجامعة بتيميشورا.. كانت الألمانية هي لغتها الأم فيما تعلمت الرومانية لاحقاً وهي ابنة الخامسة عشرة.. وشعرت كم أن الرومانية تتوافق مع مزاجها، لاسيما في تسمية أشياء الطبيعة كما عايشتها ونظرت إليها في قريتها وهي مستوحدة تتأمل وتتفكر في صورة الكون أمامها. وبحسب تعبيرها فهي حين تكتب تحضر الصورة الرومانية خلف الكلمة الألمانية. لكنها من جانب آخر تعترف أنها لا تثق باللغة، وحين تُسأل عن سبب ارتيابها بها تجيب بسؤال: “ولماذا الاطمئنان إليها؟”. وتشير إلى فترة الديكتاتورية التي “جسّدت اللغة أفضلَ وسيلة لخداع العالم.. حين تصمت يصعب عليك أن تكذب. بالتالي يتم الارتياب في الصمت أكثر من الكذب”.
واليوم، بعد انهيار الديكتاتورية، ما تزال مولر تشكو من استمرار سريان سموم الديكتاتورية في البلاد، تقول: “إنهم يتظاهرون في رومانيا بأن الديكتاتورية قد اختفت في الهواء، لأن البلاد كلها تعاني فقدان ذاكرة جماعياً”. ولهذا انتشر الفساد وانعدمت العدالة، وبهذا الصدد تكتب عن تلك المشاهد السريالية بين الجناة والضحايا:
“يحصل منشق سابق على وظيفة في الخدمة العامة، ويتم استدعاؤه لحلف القسم. وحين يفتح الباب، يجد أن محقق الجهات الأمنية السابق يقف هناك كي يسمع قسمه على دستور ديمقراطي”!!.
وهيرتا مولر امرأة متكتمة، لا تفصح عن عواطفها بسهولة، عاتبتها لجنة جائزة نوبل لأنها لم تدل بأي تصريح حول فوزها بالجائزة الكبيرة.. قالت أنها ليست من النوع الذي ينط فرحاً، بالرغم من كونها مبتهجة، لكنها لا تريد لهذه الجائزة أن تغير حياتها.. وكانت الكتابة خيارها الوجودي لكي تطل على حقيقة نفسها. ولم تحمل، في ذهنها، أوهاماً عن قدرة الكتابة على تغيير مسارات الحياة.. تقول: “لم أواصل الكتابة لدواعي قوة ما، لكني فقط اكتشفت أنها منحتني صيغة للتماسك الداخلي، ويمكنها أن تدعم وعيي بذاتي. أساساً، ربما عدم امتلاكي للقوة، دفعني لكي أكتب. آمنت لحظتها أن الكتابة مفتاح يحق لنا التشبث به، حتى ولو أدركت أن وقائع الحياة ستبقى على حالها”.
أرجوحة النَفَس:
اعتمدت هيرتا مولر في حياكة خيوط روايتها ( أرجوحة النَفَس ) على تجربة حقيقية، مؤلمة، مرت بها والدتها قبل ولادتها هي بسنوات.
“رُحلّت أمي إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. أمضت خمس سنوات في معسكر عمل تكفيراً عن ( ذنب جماعي ) لأفعال هتلر. أطلقوا على ذلك اعتقالاً بغرض إعادة التأهيل”. ولأن سرد حكاية الأم تكرر مراراً في المنزل فإنها أصبحت جزءاً من الموروث القصصي للعائلة، وتغلغلت إلى منطقة اللاوعي من الكيان العقلي والنفسي لمولر.
وفي هذه الرواية تأخذ الروائية من طرق نسج السير الذاتية وتقنياتها بالاعتماد على ما سيحكيه لها بالتفاصيل الدقيقة صديقها الشاعر باستيور الذي خاض، مرغماً، التجربة عينها.
يؤخذ الراوي عنوة من قريته الرومانية وهو ابن السابعة عشرة، حاملاً معه كل ما عنده، أو كل ما يملك ( هذا ما سيخبرنا به في جملتي الاستهلال الأولى والثانية ) محشوراً في عربة معدّة للحيوانات، مع آخرين، قبل أن يحملهم القطار إلى الأصقاع الباردة الجرداء ليؤدوا طوال خمس سنين أعمالاً مختلفة شاقة، بلا مقابل مادي، لأعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية. ويمكن عدّ الجوع ثيمة الرواية الرئيسة.
منذ الفصول الأولى سنعرف أن الراوي يحكي لنا حقيقة ما حصل بعد عودته بعقود، جاعلاً الجوع قضيته التي ناضل في غمارها من أجل البقاء حياً:
“لا توجد كلمات مناسبة لوصف عذاب الجوع. يجب عليّ أن أُري الجوع اليوم أني استطعت الإفلات منه. صرت التهم الحياة بتفاصيلها، منذ اليوم الذي لم أعد فيه مجبراً على أن أجوع. أنا حبيس طعم الأكل حين آكل مذ عدت من المعسكر إلى البيت، منذ ستين عاماً أكافح ضد الموت جوعاً”. ويبقى شبح الجوع عالقاً في الذاكرة، في زاوية ما من الروح، لا يغادر حتى مع انتهاء مسوغاته البيولوجية.
إنهم مجموعة بشرية تربو على المائة ألف شخص، وجدوا أنفسهم مجتثين من أماكنهم، مسلوبي الإرادة، ومطعونين في كرامتهم الإنسانية.. مسجونين من غير أن يقترفوا أي ذنب، ومن غير أن يأبه لمصيرهم أحد.. كانوا ضحايا نظام دولي مستجد عُرف باسم الحرب الباردة حيث تقاسم الأقوياء المنتصرون مناطق النفوذ والغنائم: “كنا عميان جوع ومرضى حنين إلى الوطن، كنا خارج الزمان وخارج أنفسنا ومستغنين عن هذا العالم، يعني كان العالم مستغنياً عنا”.
إن ضغط الجوع يفضي بالعقل والنفس إلى مسالك عويصة.. يستدعي الجوع فكرة ما يمكن أن يُسكته، وهكذا تبدأ عمليات الطبخ بالكلمات: “عندما يكبر الجوع إلى أقصاه، نتحدث عن الطفولة والطعام. النسوة يتحدثن عن الطعام أكثر من الرجال. والقرويات هن السبّاقات في تقديم أدق تفاصيل هذه الحكايا”.
يغدو الطبخ بالكلمات فناً ينافس فن حكي النكات.. “وصفات الطبخ ( التي ستتوسع نساء المعسكر في إطلاقها ) هي نكات ملاك الجوع” بتوصيف الراوي الذي سيضطر إلى بيع الكتب القليلة التي جلبها معه من بلاده وأخفاها جيداً مقابل قليل من الطعام: “مقابل خمسين صفحة ورق سجائر من زرادشت حصلت على مكيال من الملح، حتى أني حصلت على مكيال سكر مقابل سبعين صفحة من ذات الورق”. والإشارة هنا إلى كتاب نيتشة ( هكذا تكلم زرادشت ).
يستفيض الراوي في وصف أشياء المعسكر وتقاليده الصارمة، والعلاقات بين البشر وبين الطبيعة القاسية، أو بين البشر أنفسهم سواء كانت بين العاملين بالسخرة المقذوفين خارج أمكنتهم، أو بينهم وبين حراسهم..
بحكم العادة والمعايشة تتكون نظرة خاصة للراوي إلى الأشياء لا تخلو من الألفة والحميمية.. نظرة قد تبدو أحياناً غريبة، لكنها الغرابة التي صنعتها ظروف الشقاء والحرمان. ودائماً يحضر الجوع، كما لو أن تلك الأشياء تستدعي شبحه، أو بلغة الراوي؛ ملاكه.. يتحدث، في سبيل المثال، عن الرفش الذي يستخدمه في جرف الفحم: “رفش له شكل القلب، عميق التكوّر، لدرجة يسع فيها خمسة كيلوغرامات من الفحم، وتجد فيه مؤخرة ملاك الجوع كلها ما يسعها”.
حين هربت الروائية هيرتا مولر من رومانيا إلى بلدها الأم ألمانيا ( الغربية ) في العام 1987 لاحظ الألمان أنها تمتلك نظرة غريبة في رؤيتها للأشياء.. تقول عن هذا: “النظرة الغريبة قديمة، وقد جلبتها معي جاهزة من عالم معروف لديّ، وليس لها علاقة بالهجرة إلى ألمانيا. الغريب بالنسبة لي ليس نقيضاً لما هو معروف، بل هو نقيض ما هو مألوف. ليس بالضرورة أن يكون المجهول غريباً، لكن المالوف قد يكون غريباً”. ومن خلال هذه الرؤية المفعمة بالغرائبية واللامألوف بنت عالمها الروائي لغةً وأسلوباً ومسارات أحداث.
وفي سبيل المثال يرسم راوي ( أرجوحة النَفَس ) الذي يمضه الجوع على الدوام صورة المكان عبر مفردات الأكل وروائح الأطعمة “فللشارع الرئيس في المعسكر رائحة الكاراميللا، ولمدخله الرئيس رائحة الخبز الطري.. لسياج المعمل الخشبي رائحة مربّى الجوز بالسكّر، لمدخل المعمل رائحة البيض المتعفن.. لبرج التبريد رائحة الباذنجان المقلي، ولمتاهة أنابيب البخار رائحة فطيرة الفانيللا”.
من يُرغم على دخول تجربة مريرة لسنوات مثل تلك التي خبرها بطل رواية مولر فإنه لن يخرج منها الشخص ذاته.. الشخص الذي كانه قبل عملية الدخول.. إن عطباً مهولاً يكون قد حصل في مملكة الروح.. وإن العالم الذي يعود إليه لن يكون هو العالم ذاته الذي عرفه من قبل.. سيتحول شكل الموجودات ونكهة الأشياء وطعم المأكولات.. وستتغير نظرة الإنسان إلى ذاته وتاريخه ووطنه.. سيكون العالم القديم العالق كصور شاحبة في الذاكرة قد غار إلى الأبد في فجوات الزمان.
“سبع سنين مضت على عودتي إلى الوطن، وأنا أعيش بلا قمل منذ سبع سنين، لكنني حين أرى القرنبيط أحياناً على صحني، أشعر أني آكل القمل منذ ستين سنة على أطراف كنزات الصوف في غسق الصبح الباكر، كما أني لا أشعر وحتى اليوم أن القشطة قشطة”. وبمرور الوقت ودوران المواسم يفقد حتى الحنين إلى الوطن لونه، ونكهته. وبعبارة الراوي يرتبط الحنين إلى الوطن بالجوع.. يكون حنيناً إلى المكان الذي كان فيه المرء شبعاناً.. “كانت قطع الفواكه مقشّرة مثل قبضات من البللور. وحين كنت أرى الآخرين يأكلونها، كان الحنين إلى الوطن يقضم تورتة الفواكه، فتنقبض معدتي”.
مما يلاحظه قارئ هذه الرواية هو أن عالمها يكاد يخلو من الحب.. وحتى الإشارات إلى العلاقات الجنسية تبدو عابرة ومبهمة، وكأن الأرواح مُسخت ولم تعد قادرة على التواصل الحميمي.. وفقط في النهاية، في السنة الأخيرة في المعسكر حين يبدأ الأسرى بتلقي أجور نقدية مقابل عملهم يكون بمقدورهم شراء أطعمة جيدة فينمو اللحم على عظامهم ويفيض على وجوههم ماء الحياة ثانيةً، فيشرعون بالاهتمام بمظاهرهم وإبراز وسامتهم وجاذبيتهم. وبعد عودة الراوي إلى الديار يبقى في حالة من الخمول العاطفي، ويفكر في حاله كالذي لا يبدي حراكاً، وكيف أن كبّة الصوف أكثر حياة منه. لقد أحالته سنوات المعسكر الخمس إلى كتلة من العجز والخواء.
وما قبع تحت طيات اللاشعور يوماً بعد آخر يعاود الظهور في الأحلام والكوابيس.. إن ما جرى تخريبه بتلك القسوة الظالمة لن يرجع إلى سابق عهده أبداً. وتتكرر الأحلام ذاتها، وأحياناً ببعض التفاصيل المختلفة. ويرى المرء نفسه في قلب المعسكر ذاك، في فضائه الكالح، وتحت سطوة قوانينه الصارمة.. “وبعد ستين سنة من هذا كله ما زالوا يرحِّلونني إلى معسكرات العمل الإجباري في الحلم. لقد رحّلوني وحتى الآن للمرة الثانية والثالثة والسابعة”. وأحياناً يجد نفسه في المعسكر من جديد فيقولون له لا توجد قيادة للمعسكر فيشعر كم هو مهمل، ولا أحد يحتاجه، لكنه لا يستطيع المغادرة إطلاقاً. وتلك صورة مجازية عن المحنة الوجودية وعبثيتها في محيط يسلب الإنسان إرادته وكرامته وحريته ومعنى حياته.
على الرغم من كونها متشحة بالكآبة فإن ( أرجوحة النفس ) رواية لا تستطيع إلا أن تقرأها بمتعة وشغف.. إنها من الروايات التي تمنحك صوراً ومعلومات عمّا يمكن للأنظمة الشمولية أن ترتكبه بحق الإنسان الاعتيادي البريء لا لشيء إلا لأنه ينتمي إلى جماعة مغضوب عليها لسبب ما.
المصادر:
1ـ ( أرجوحة النَفَس/ ترجمة وحيد نادر..هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث/ 2009 ).
2ـ ( حوار مع هيرتا مولر.. ترجمة: سعيد بو خليط.. مجلة نزوى/ العدد 62/ 2010 ).
3ـ ( ملف: هيرتا مولر: نضال ضد الديكتاتورية ) مجلة العربي الكويتية.. العدد 614 يناير 2010 ).
[email protected]