17 نوفمبر، 2024 7:33 م
Search
Close this search box.

هيبة الدولة في تونس بين اليسار واليمين

هيبة الدولة في تونس بين اليسار واليمين

النظرة الموضوعية إلى المسألة تظهر الاتحاد متجاوزا لصلاحياته وواجباته الوطنية، إذ ليس من مهامه أن يقيل الوزراء أو أن يعينهم، فقد يكون شريكا ذا رأي ومشورة في شؤون سياسة البلاد ولكنه ليس جهة صاحبة قرار.

ما زال التحوير الوزاري الجزئي الذي قام به رئيس الحكومة التونسية في نهاية الأسبوع الماضي يثير الردود ويسيل الحبر.

فقد توفرت فيه صفتان غير متوقعتين: المفاجأة وحرية الاختيار.

أما المفاجأة فناتجة عن عدم التشاور مع “الشركاء” في حكومة “الوحدة الوطنية” لتحديد اسم من يذهب واسم مَن يحل محله، وحسنـا فعـل رئيس الحكومة لأنـه لو استشار لأفسد عليه المستشـارون مقاصده من التحوير، ولتدخل كل فريق بمقترحاته التي سيُرضيه الأخـذُ بهـا وسيُغضبه رفضُها.

وأما حرية الاختيار فتمثلت في إقالة من أراد إقالته، وتعيين من أراد تعيينه دون رضوخ للمناورات التي سبقت التحوير.

وقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تبنى مطلب نقابتي التعليم الثانوي والتعليم الأساسي بإقالة وزير التربية واختيار بديل له ودافع عنه الأمين العام للاتحاد دفاعا صريحا، ينتظر هو والنقابتان معه إقالة ناجي جلول، ولم تكن النقابتان والمكتب التنفيذي للاتحاد تنتظر وحدها إقالة وزير التربية، بل كان جلّ المتأثرين بمنطق الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي وعدد كبير من المربين الذين فعل فيهم الخطابُ التحريضي التجييشي الذي اتخذته نقابتا الثانوي والأساسي فعْلَه ينتظرون هم أيضا “الانتصار” بتنحية الوزير الذي أقضّ مضاجع النقابيين.

وقد كتبوا الكثير في الصحافة وعلى شبكات التواصل الاجتماعي في سب وزير التربية وشتمه وإلصاقِ كل المعايب به ورد كل مصائب التعليم إليه، وامتداحِ الكاتب العام لنقابة الثانوي الذي نسبوا إليه من فضائل الحكمة والتعقّل والنضاليّة ما لم يرَ الناس منه ذرّة واحدة فيه.

ولكنّ رئيس الحكومة قد خيب آمالهم فلم يُنَحِّ وزير التربية بل طالت التنحية وزيرا اتّحاديّا هو وزير الوظيفة العمومية والحوكمة الذي أظهر بعضَ العُتُوّ في منطقه وسلوكه قبل التحوير، بإعلانه على الملإ رغبته في الاستقالة وأن نصّ استقالته جاهز ينتظر الوقت المناسب لتقديمه. ولا شك أن لوزير الوظيفة العمومية ما يبرر رغبته في الاستقالة وخاصة ما أشيع من اطلاعه على ملفات فساد قد مُورستْ عليه ضغوط ليسكت عنها.

وليس غريبا أن يكون هذا صحيحا، إذ التونسيون على علم بما صرح به رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في أكثر من مناسبة عن تفشي الفساد في الوسط السياسي وعن الشبهات التي تحوم حول بعض الوزراء وبعض المقربين من رجال السياسة النافذين، وقد قيل إن أكثر من مئة ملف قد قدمت للقضاء ولكن لا يعرف النّاسُ مآلها، وقد يكون مآلها مآل ملفات أخرى كثيرة قد فتحت بشأنها قضايا منذ عهد الترويكا، لكنها بقيت مغفلة في مدارج النسيان. على أن وزير الحوكمة ينتمي في الحكومة إلى فريق عمل وانتماؤه يوجب عليه التحفّظ والإمساك عن التصريح بما يعرفُ، وإعلانه الرغبة في الاستقالة نوع من التصريح الضمني بما بين يديه من الملفات.

وقد أغضب هذا التحوير المنظمة الشغيلة لأنه لا يخلو من تحدّ لها. والتونسيون في هذه المسألة أمام موقفين: إما أن ينحازوا للاتحاد فينتَصروا له على الحكومة، وإما أن ينحازوا للحكومة فينتَصروا لها على الاتحاد.

ولا شك أن النظرة الموضوعية إلى المسألة تظهر الاتحاد متجاوزا لصلاحياته وواجباته الوطنية، إذ ليس من مهامّه أن يُقيلَ الوزراء أو أن يعيّنهم، فقد يكون شريكا ذا رأي ومشورة في شؤون سياسة البلاد ولكنه ليس جهةً صاحبة قرار.

وقد أخطأ الذين دافعوا عن حقه في التدخل في تسيير الحكومة بالعـزل والتعيين، وقد قرأنا لبعضهم من النقابيين ومن اليساريين احتجاجهم لذلك بحالات سبقت منها دور الاتحاد في إخراج الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي من السلطة ودوره في تنحية سعيد العايدي وزير الصحة السابق.

وهذا يعني، ببساطة، أنّ له الحقّ في أن يثور على رئيس الجمهورية المنتخب فيزيحه عن السلطة، وأن يثور على رئيس الحكومة فيعزله وأن يعترض على وجود أيّ وزير في الحكومة فيبعده منها.

ومثل هذا الموقف هو الذي كان وما زال يسيّر نقابتي التعليم الأساسي والتعليم الثانوي في موقفهما من وزير التربية، وهو موقفٌ يمثل خطرا حقيقيّا على الحكومة وعلى الدولة معا. وقد عرف التونسيون موقفا شبيها به وقفه حزب النهضة من وزير الشؤون الدينية الأسبق عثمان بطيخ الذي حاول التصدي لانفلات المساجد وانفلات الأئمة فيها، فقاومه الإسلاميّون وتسببوا في تنحيته بعد أن نجحوا من قبل في تنحيته أيام الترويكا من خطة الإفتاء لمعارضته تسفير الشباب إلى بلدان أخرى لمحاربة أهلها المسلمين وحكمه على ما سمّي بـجهاد النكاح بأنه زنى صريح. ولا نرى في هذا المقام من فرق بين موقف حزب النهضة من عثمان بطيخ، وموقف الاتحاد من ناجي جلّول.

والنظرة الموضوعية نفسها تظهر الحكومة على يدي رئيسها مدافعة عن هيبة الدولة رافضة للابتزاز وفرض الأمر الواقع باسم الحرية النقابية.

وما قام به رئيس الحكومة يمثل شبهَ إفاقة أو شبه انتفاضة على ما ورثته الحكومات المتعاقبة بعد 14 يناير 2011 من مظاهر الضعف الذي كاد يصبح في السنوات التي حكمت فيها الترويكا لامبالاةً بما يحدث في البلاد.

وقد كان لاتحاد الشغل نفسه ممثلا في النقابات الجهوية المنتمية إليه، وجلها من اليسار السياسي، دور في ذلك الإضعاف ونزع الهيبة عن الحكومة وعن الدولة عامة سواء بالإضرابات أو بالاعتصامات أو بسد الطرقات أو ببناء الجدران على السّكك الحديدية وغلق المنشآت الخاصة وإخراج الكثير منها من البلاد وإيقاف العمل لأيام طوال في المنشآت العامة والاعتداء على المسؤولين ممثلي الدولة بالضرب والإهانة وطرْدهم من مراكز عملهم، وقد كان موقف الاتحاد في معظم تلك الأحداث إما الصمت وإما التأييدَ، ولم تختلف عنه أحزاب اليسار في ذلك لأنها هي أيضا بحكم وجودها في المعارضة تدعم ما يحدث من أعمال الاحتجاج المحلّيّة والجهوية والوطنية مهما تكن درجة العنف فيها.

ولئن كان الاتحاد في مواقفه يؤيد منظوريه في مطالبهم التي يراها مشروعة، وليست دائما كذلك، مثل موقفهم من وزير التربية الحالي، فإن أحزاب اليسار تدافع عن المذهب وتنحاز إلى الأيديولوجيا، وهذا الدفاع وهذا الانحياز هو الذي جعلها ترفض المشاركة في الحكومات الثلاث التي عقبت حكومتي النهضة، لأنها لا ترى بين الحكومات الثلاث وحكومتي النهضة فرقا جوهريا إذ هي كلها في نظرها إما يمينيةٌ دينية متخلّفة وإما مدنية بورجوازية ليبرالية معادية لمصالح العمّال والشغالين. وقد اشتهرت برفض كل ما يعرض عليها من مقترحات من أجل المشاركة في الحكومة مقدمة “اللاء” النافيةَ التي قد تصبح “لاءً” ناهية إذا تجرأ أحد قادتها على إِلاَنة الجانب وإظهار بعض الرغبة في المشاركة في الحكومة.

ولم يترك الإسلاميّون حظهم من إضعاف الدولة والحكومة بعد عهد الترويكا فلم يختلفوا في ذلك عن اليسار. وليس قبول النهضة المشاركةَ في الحكومة بالدليل القاطع على رغبتها في دعمها وتأييدها، بل الغاية الأساسية المبطّنة كما يذهب إلى ذلك جل التونسيين هي أن تبقى ذات موقف ورأي في اتخاذ القرارات وتحديد الاختيارات والدفاع عن ماضيها في السلطة، لأنه ماض مُحْوِجٌ إلى التتبّع والمحاسبة سواء في الاقتصاد أو في الأمن أو في الإدارة أو في الثقافة أو في التربية أو في القضاء، وهي ما دامت في الحكومة شريكا لا تخشى من أن تفتح الملفات التي تدينها؛ بل إن مشاركتها تسمح لها أيضا بأن تفرض الإبقاء على بعض اختياراتها وامتيازاتها السابقة ذات التوجه الديني، مثل بقاء بعض الأئمة المنفلتين من أتباعها في المساجد باسم “الإسلام المعتدل”.

والزوبعة التي أثيرت في الأيام الأخيرة حول مسرحية “ألهاكم التكاثر” دليل واضح على الاعتدال، وعدم المس بالروضات القرآنية التي تفسد فيها عقول الناشئة الصغيرة إفسادا، والسكوت عن التعليم الزيتوني الذي انتشر دون رقيب وخاصة بعد ظهور إدارة للتعليم الديني في جامع الزيتونة تبشّر بـ“التعليم الزيتوني الصحيح”(!)، وكأن ما يدرس في الجامعة الزيتونية ليس تعليما صحيحا؛ وقد انخرط في هذا “التعليم الصحيح” آلاف الطلبة ويُنْتَظرُ تخرج الدفعة الأولى منهم هذه السنة، ولا ندري بأي شهادة علمية سيتخرجون وإلى أي أفق تشغيلي سيتوجهون، وهذا التعليم الموازي يحدُث ويطبق دون موافقة وزارتي التربية والتعليم العالي لا على المدارس التي أنشئت ولا على البرامج التي تدرس فيها، بل إن الوزارتين ساكتتان صامتتان وكأن الأمر عادي رغم أن فيه خرقا واضحا لمبدإ “وحدة التعليم” الذي اختارته الدولة بدايات الاستقلال. وهذا كله يعد في نظرنا خروجا على الدولة المدنية وعلى اختياراتها.

ويمكن القول مطمئنين إن اليسار واليمين معا قد ائتلفا على إضعاف الدولة المدنية باسم المذهب والعقيدة، وليس باسم المصلحة العامة للبلاد.

وهذا في رأينا مكمن خطر كبير على البلاد. فإن البلاد ليست في حاجة إلى الأحزاب الشبيهة بالملل والنحل المذهبية التي تعتمد في تفكيرها وفي برامجها على نصوص بعينها دينية أو فلسفية تتخذها مرجعياتٍ فتنقاد لها وتنظر إلى العالم وإلى المجتمع من خلالها وتدافع عن تطبيقها، سواء بعنوان الدفاع عن “الهويّة” الإسلامية، أو بعنوان الدفاع عن “البروليتاريا” ولو أدى الأمر إلى إضعاف الدولة المدنية أو إلى إتلافها، بل هي حسب رأينا في حاجة إلى أحزاب مدنية حداثية ذات توجهات فكرية واقعية، تنطلق من استقراء واقع البلاد بما فيه من تعقيدات موروثة ومن تنوعات اجتمـاعية وحضارية وثقافية قد أسهمت كلها عبر التاريخ في تكوين هذا الكائن المجتمعي الذي يوصف بـ“التونسي”، أي ينبغي أن يكون الإنسان التونسي وواقعُه الذي يعيش فيه بمختلف تنوعاته المرجعَ الأساسي الذي تتخذه الأحزاب منطلقا في أدبياتها وفي برامجها، بعيدا عن الغوغائية المذهبية سواء مالت إلى اليمين أو مالت إلى اليسار.

فإذا التقت الأحزاب حول أهداف مشتركة، وإن تنوعت الوسائل على شرط ألا تتصادم تحقّق للتونسيين ما كانت تسعى إليه دولة الاستقلال من “وحدة وطنية”، تتحقق بها للدولة وللحكومة الديمقراطيتين قوتهما وهيبتهما.

نقلا عن العرب

أحدث المقالات