18 ديسمبر، 2024 8:44 م

هوامش على كتاب النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة

هوامش على كتاب النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة

في مقال سابق كنا قد عرضنا لقراءة الدكتور علي المرهج لأبن رشد ولمن قرأه من المفكرين العرب المعاصرين في كتابه (النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة)، والذي قدمنا فيه نبذة موسعة عن خارطة الكتاب وأهم الأفكار التي وردت فيه، وكنا قد وسمنا تلك القراءة بـ (التأويلية) وهي لم تنتمِ الى أحدى القراءات التي طرحها في دراسته، (العلمانية، الدينية، الأبستيمولوجية) ولم تنحاز لأحداهن انما كانت خليط من رؤى وأفكار تلك القراءات، متفقة مع بعض منطلقات القراءات الثلاث ومختلفة عن بعض المنطلقات الأخرى، وذلك لأنه يرى في أبن رشد انه قابل للتأويل، ولذلك فالمرهج يرى أن في جميع القراءات التي درسها عن أبن رشد قد حملت نوعاً من الصحة من قبل الدارسين، وقابلية النص الرشدي للتأويل قد جعل قرّاءه يضعونه في الخانة التي ينتمون لها ويصبغون نصوصه بصبغة منطلقاتهم الفكرية، ولذلك فهي قراءات لم تخلُ من توجه أيديولوجي وليست بريئة تماماً. ولذلك كانت مهمة المرهج شاقة في كشف ودرج وقراءة كل مفكر ضمن القراءات الثلاث التي وضعها في خارطة دراسته، وقد قلنا سابقاً ونؤكد هنا أيضاً أن المرهج أستفاد في تقسيمه الثلاثي هذا من ما طرحه الكُتّاب والمفكرين في قرأتهم للفكر والتراث العربي وموقفهم من الأصالة والمعاصرة فتأرجحت المواقف من (ماضوية) دينية الى (تغريبية) علمانية الى (توفقية) نقدية. وهذا ما وظفه المرهج في تحديد فصول كتابه وجوهر دراسته.
وقد أثارت مجموعة من الردود والتعليقات لنخبة من الباحثين والكُتّاب على المقال السابق بعض الأسئلة وعلامات الأستفهام والتي دفعتني لتسجيل بعض الملاحظات النقدية المتواضعة على ما جاء في كتاب المرهج عن أبن رشد.
الذي لمسته في قراءة المرهج للنص الرشدي انه قرأ أبن رشد قراءة مشرقية وهذا واضح من خلال أدواته المعرفية والثقافية من جهة، ومحاولته لكشف ما هو مشرقي في فلسفة أبن رشد، من جهة أخرى، لتأكيد قيمة ومكانة الفلسفة الاسلامية المشرقية وحضورها الكبير في تاريخ الفلسفة، وتأثيرها الكبير على فلاسفة المغرب، وهذا لا يقلل من قيمة الجانب العقلاني في فلسفة أبن رشد، ولكنه يبين حجم الصلة بين فلسفة أبن رشد وفلاسفة المشرق، وتكرار الموضوعات المشرقية وحضورها عند ابن رشد خصوصاً وعند فلاسفة المغرب عموماً، وهي بالتالي أعطت صورة واحدة لهوية الفلسفة الاسلامية مقابل فلسفات العالم، ببعدها الروحي والمثالي وبحثها فيما هو ديني وبلغة فلسفية وتداخل كلامي وعرفاني في أغلب الأحيان، كما أتضح لنا من خلال قراءتنا لكتاب المرهج، وأتضح لنا أيضاً ان ردود المرهج المشرقي مشرقية بامتياز وكانت تنطلق من الآتي :
1ـ كانت قراءة المرهج تدافع عن الفلسفة المشرقية من جهة تبني أبن رشد للكثير من أفكارها، ومنهجه الفلسفي الذي تمثل النسق المشرقي، سواء شعر أبن رشد بذلك أو لم يشعر، من خلال ردوده ونقده لفلاسفة المشرق، معتمداً على أظهار النصوص التي تؤيد ذلك، ومستنداً على رؤية الدكتور محمد المصباحي، ـ أحد دارسي أبن رشد ـ التي ترى في أبن رشد ناقداً قد تلبست فيه أو تجسدت منظومة الفلاسفة المشرقيين الذين نقدهم. فلم يغب عن فلسفة أبن رشد الموضوعات الفلسفية والكلامية والصوفية التي تناولها وتداولها فلاسفة المشرق، وقد وجد المرهج الشبه الكبير في ذلك بين أبن رشد وفلاسفة المشرق، وهذا ما كشفت عنه مؤلفات أبن رشد الفلسفية والكلامية.
2ـ كانت قراءة المرهج تحاول الرد على رؤية المفكر العربي محمد عابد الجابري، الذي ذهب في كتاباته الى عقلانية أبن رشد وبالتالي عقلانية المغرب العربي، ولا عقلانية فلاسفة المشرق وبالتالي لا عقلانية المشرق العربي، ووقوع الجابري في فخ الأيديولوجيا والنزعة العرقية والعنصرية، وبالتالي أنبرى المرهج ناقداً وداحضاً لتلك الرؤية الجابرية من جهة، ولتقديم النصوص والأدلة على لا عقلانية أبن رشد وحضور (البيان) و (العرفان) في فلسفته الى جانب (البرهان) الذي قد جعله الجابري من نصيب أبن رشد، وجعل البيان والعرفان من نصيب فلاسفة المشرق في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي) الذي وظف له كل طاقاته وامكاناته الفكرية والمعرفية في سبيل ذلك. وبالتالي نرى ان ما توصل اليه المرهج لا يجعل لأبن رشد أي علو كعب بين الفلاسفة المسلمين، وربما الفارق الوحيد هو تلقف أبن رشد للفلسفة واحيائها وشرحها بأمر سلاطني أو أميري مع المهدي محمد بن تومرت في الأندلس (في دولة الموحدين)، والتي كانت ـ أي الفلسفة ـ (في دولة المرابطين) قد تم محاربتها ورفضها، وبعد ذلك تعرض أبن رشد لمحنته الكبرى، التي جعلت العامة يمقتون فلسفته وينقمون عليه كما يمقتون جميع الفلاسفة والفلسفة، يونانية واسلامية.
3ـ للمرهج رأي في سبب أهتمام المفكرين والدارسين العرب المعاصرين بأبن رشد ويعلل ذلك بسبب أهتمام الدارسين والكتاب الغربيين بفكر أبن رشد، لأن العرب لا يلتفتون لشيء ما الا اذا نبه اليه شخص ما او بينوا حسناته وأهميته، فالعرب قد رجعوا الى أبن رشد وأهتموا به نتيجة أهتمام الغرب به وتوجههم نحوه، والا لو لم يكن ذلك الاهتمام وتسليط الاضواء عليه لم ينل أبن رشد تلك الدراسة المكثفة من قبل العرب. ويمكن اعتبار ذلك الأمر مثالاً ومقياساً تقاس عليه جميع الأشياء والتوجه نحوها، فالغرب (متمثلاً بالمستشرقين) قد كشف الشيء الكثير من المنجز العربي وتراثه الثمين. وهذا شيء لا يمكن نكرانه، وربما يحمل من الصحة الشيء الكثير، ولكن في نفس الوقت أرى أن الغرب قد أستفاد كثيراً من التراث العربي والاسلامي في نهضته وأنطلاقته الاصلاحية، ومن توظيفه لأفكار أبن رشد والمفكرين العرب والمسلمين، وكان المنجز العربي والاسلامي مصدر دهشة واثارة وصدمة بالنسبة للغرب، كما أدهش وصدم التباين الكبير الحاصل بين العرب والمسلمين والغرب، المفكر العربي الحديث حين أطلع على المنجز الحضاري والمدني والعلمي الأوربي، فوجد الاختلاف كبير جداً بين الطرفين، فأنقلاب نور العرب والمسلمين وحضارتهم الى ظلمة قاسية كظلمة العصر الوسيط الأوربي، وتحول أوربا الظلام الى نور وشمس أضاءت العالم لأمر مدهش ومثير حقاً، أثار صدمة المفكر العربي، وبالتالي أراد أقتباس شيئاً من هذا النور لينير ظلمة المجتمعات العربية، وليكون ذلك من خلال استعادة الرموز الفكرية والفلسفية العربية والاسلامية التي أثرت على أوربا واحياء فكرها، ومنهم أبن رشد الذي وظفه الغرب في حضارته، فلنوظفه نحن أيضاً ونحن أولى به من الغرب، وهذا ما جعل أبن رشد محط أنظار الجميع، عرباً وغرباً، وبمختلف توجهاتهم الأيديولوجية وقراءاتهم الفكرية، دينية كانت أو علمانية أو نقدية.
4ـ لقد نبه المرهج على مسألة مهمة في مقدمة كتابه وهي ان رجوع الكثير من الكُتّاب العرب والمسلمين بمختلف توجهاتهم، لأبن رشد هو لتأكيد الجانب العقلاني في الفلسفة الاسلامة عامة وفي فلسفة أبن رشد خاصة، ومنبهرة بعقلانية أوربا لتقلدها، متناسية أن أوربا نفسها قد تخلصت من كل العقلانيات الصارمة التي قيدت الذات والفكر، وأصبح الاوربي في منأى عن عقلانية أفلاطون أو أرسطو وحتى ديكارت لتقترب من وجودية هايدغر وفلسفة نيتشة التي نددت بسلطة العقل ودعت الى تقويضه وتجاوزت أوربا عصر التنوير لتصل الى عصر الحداثة وما بعد الحداثة. والسؤال الذي أطرحه على المرهج هو أن كانت أوربا قد تجاوزت النهضة والتنوير وتجاوزت الحداثة الى ما بعدها فأين نحن من تلك الأحداث والثورات، فهل تحسبنا قد وصلنا عربياً الى مرحلة التنوير لنتخطى ذلك الى ما بعد حداثة عربية كما يشهده العالم؟. نحمد الله ونشكره أن نحن عشنا أو نعيش مرحلة النهضة والتنوير والحداثة كما عاشتها أوربا سابقاً، فنحن الى اليوم نعيش مرحلة ما قبل حداثة ولم نصل بعد الى الرشد الفكري، وطموح الكثير أن يقلد الفكر الرشدي ليصل الى تلك الغاية، لما فيه من توجه عقلاني وطموح برهاني يحاول أن يلجم العوام أو يكبح جماح خطابهم الجدلي والخطابي ليصل بهم الى الخطاب البرهاني، لايمانه بأن لغة العقل هي اللغة المشتركة الوحيدة الصالحة للحوار والتفاهم والشراكة والتعايش، دون تكفير أو تطرف أو عنف. ولكن أن أردنا الاعتراض على أبن رشد فنسجل عليه ما أورده المفكر العراقي علي الوردي في نقده لأبن رشد على دعوة الأخير الناس الى التعقل واللجوء الى العقل فهو الكفيل بتوحيد الناس وجمع كلمتهم، وقد ( نسي أبن رشد ـ والكلام للوردي ـ أن الفلاسفة لا يختلفون عن غيرهم من الناس في طبيعتهم البشرية. فهم لو أجتمعوا لتنازعوا وتناحروا ولعن بعضهم بعضاً كما يفعل العوام والسوقة تماماً. يعتقد أبن رشد أن الفلاسفة اذا اختلفوا في شيء ردوه الى العقل وحجة المنطق فتفاهموا وخضعوا للرأي الذي يرونه معقولاً. انهم على زعم أبن رشد يستنيرون بنور العقل والمنطق وليس هناك سخافة أبشع من هذه التي يقول بها أبن رشد وأمثاله من المفكرين الطوبائيين). (علي الوردي. مهزلة العقل البشري. فصل عيب المدينة الفاضلة. ص 99.). أي أن أبن رشد شأنه شأن الفلاسفة المسلمين الآخرين الذين تمسكوا بمنطق أرسطو ولم يخرجوا من سطوته وسلطته، فهو منطق يعتمد القياس وليس الاستقراء والعلم والتجربة والملاحظة، وكذلك خضوع الانسان لقوانين العقل الثلاثة التي تقيد الفكر ولا تجعله حراً في خياراته، وقد كمل الحق عند أرسطو بل هو الحق، كما يقول أبن رشد، وهذا ما جعل أبن رشد لا يختلف عن غيره من الفلاسفة سواء في المشرق أو المغرب في فهمه للعقل والبرهان.
5ـ لقد كشف المرهج في قراءته ومن خلال النصوص الرشدية على جوانب عقلانية وتنويرية في الخطاب الفلسفي لأبن رشد، وأخرى دينية وكلامية وعرفانية أو (لا عقلانية) باصطلاح محمد عابد الجابري، لا أعرف هل أن المرهج يكشف عن أزدواجية أبن رشد، في مرحلة ما من حياته، وتلون خطابه (من الى)، وتذبذبه ونزعته التوفيقية، وتباينه بين الفينة والأخرى من الفلسفة الى الدين ومن الدين الى الفلسفة ومحاولته لأيجاد منطقى وسطى بين الطرفين، وفقاً للمحيط والجو السياسي والاجتماعي، وهل يعد ذلك عيباً وخلالاً في بنية التفكير والخطاب الرشدي؟
تلك هي خلاصة ما أسجله لقراءتي المتواضعة على كتاب (النص الرشدي) لعلي المرهج، وربما قراءة الآخرين للكتاب ستثير الكثير من الملاحظات والنقد والنقاش، على أن يكون سبيل الحوار والوصول الى الحقيقة هو الهدف الاساس من ذلك، وهو ما أدعو القراء والباحثين لقراءة المنجز الثقافي والمعرفي العربي عامة والعراقي خاصة، لبيان حضور المؤلف والكتاب الثقافي على الساحة الفكرية والعلمية، وتبقى قراءة المرهج قراءة ـ كما وصفناها ـ تأويلية فيها الكثير من الرؤى، قد نختلف وقد نتفق فيها معه، وهي قراءة منفتحة وترحب بالكثير من الأفكار، ولم تغلق الأبواب خلفها، وتلك هي ميزة القراءات التأويلية في تقبل النقد ونقد النقد، والرأي والرأي المضاد، وتنظر بأكثر من عين، لتوسع دائرة الفهم والتنوع والأختلاف، وهذا ما أجده في منهج المرهج سواء في قراءته لأبن رشد، أو في مجمل منهجه الفلسفي وطريقته في التفكير.