حين فتح المهندس غيلان نجل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب قلبه لي وللشاعر وسام العاني في البرنامج الحواري “كتاب مفتوح”تحدّث بألم عن الظلم الذي تعرّض له والده في حياته، وبعد مماته، من المحيطين به، وهذا ما كشف عنه في نص شعري كتبه في لندن عام 1963، وكان في رحلة علاج:
“قساة كلّ من لاقيت لازوج ولا ولد
ولا خل ولا أب أو أخ فيزيل من همي
ولكن ماتبقى بعد من عمري
وما الأبد؟
بعمري أشهر ويريحني موت
فانساها”
فأيّ قسوة واجهها بحيث جعلت من الموت راحة لهذا الشاعر الذي قال عنه أدونيس ” عشرة من قصائد السياب يمكن اعتبارها من أهمّ القصائد العربية التي كتبت في العصر الحديث”؟
والمفارقة أنّ هذا يحدث في أمّة تعتبر الشعر ديوانها، وحافظ مآثرها، وهذه الآلام النفسيّة، ضاعفت من آلامه الجسديّة، وعجّلت برحيله، بعمر 38 سنة تاركا إرثا شعريّا هائلا، يقول الناقد فاروق يوسف في مقال نشره بجريدة العرب في 20 يناير2018 ” الشاعر الذي أحدث زلزالا فريدا من نوعه في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة لم ينل أيّ نوع من التكريم والاحترام في وطنه أثناء حياته، لقد نبذته الأوساط السياسية، والتجمعات الثقافية على حد سواء”
وهذا سبب كاف لكي يبتعد نجله الأكبر عن طريق الشعر، رغم أنه يمتلك موهبة كتابته، فلم يخفِ ألمه لما تعرّض له والده من ظلم، لذا رأى هذا الطريق محفوفا بمنغصات جعلته يدير له ظهره ليدرس الهندسة، متّجها إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حاملا في حقيبته مخطوطات والده، التي حصل عليها في زيارة له للبصرة، ليهديها إلى مكتبة الكونجرس الأمريكي، كي تحتفظ بها، كتكريم رمزي لشاعر عربي كبير، حوصر بالبغضاء، والكراهيّة، في حياته، ولم تسلم قناته من اللمز بعد وفاته!
الحالة لا تقتصر على الشعراء، بل تطال الفنّانين، ففي حوار تلفزيوني لمطرب هو حفيد مطرب كبير، سألته مقدمة البرنامج عن النصيحة التي وجهها له جدّه، أجاب: “حين سمع صوتي، وعرف أنني أمتلك موهبة الغناء كانت نصيحته الوحيدة لي: اترك الغناء”، وحين سألتْه المحاورة: لماذا؟ أجاب:” لأنّ الفنان في مجتمعنا تطارده الشائعات، محاط بأعداء النجاح، وقد ندمت لأنّني لم آخذ بنصيحة جدي”!وهو لهّ كلّ الحقّ، ما دام هواة تكسير التماثيل يحملون فؤوسهم على الدوام!
بينما نرى العكس في الغرب، إذ يحتفون بأيّ موهوب، مثلما كانت القبائل العربية تفعل في العصور السابقة عند ولادة شاعر، كما نقلت لنا أخبار العرب، حتّى أنّ النساء كانت تجتمع، كما يحصل في الأعراس، وكانوا يتفاخرون بشعرائهم، فهم المدافعون عن أعراضها، والمحرّكون لمشاعرها، والمذيعون لمفاخرها، والمحفّزون لحماستها، والمعزّون في مصابها، كما ذكر ابن رشيق في كتابه” العمدة” حين قال” كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها. وكانوا لا يهنئون الا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج”، وقد حدّثني الصديق الشاعر عيسى حسن الياسري عن زيارة له في السبعينيات لبلغاريا، فشاهد في حديقة عامّة تمثالا لطفل متوفّى لم يتعد عمره العاشرة، فتساءل عن الذي فعله هذا الطفل، لكي يوضع له هذا التمثال؟ وكان الجواب أنّ هذا الطفل كانت له محاولات ناجحة في كتابة الشعر، لكنّ القدر لم يمهله، فتوفّاه الله، بحادث، فعاد يسأل ثانية: ومادام قد توفّي قبل أن يترك منجزا، لماذا تضعون له هذا التمثال؟ أجابه محدّثه: انظر إلى الأولاد الذين يلعبون تحت التمثال، إنّهم أصدقاؤه، نريد أن نظهر قيمة أن يكون الإنسان شاعرا، ليجتهد كلّ منهم، وينمّي مواهبه، لنضع لهم تماثيل، مثلما وضعنا تمثالا لزميلهم”!
هكذا يطوّرون المواهب، فتقدير المجتمع مهم لإنماء أيّ موهبة، وبدون ذلك لا يمكن أن ينجح الفنان في شقّ طريقه، وإذا كنا كمجتمع نحارب الموهوب، ولا نمنحه فرصة لإظهار موهبته، ففي هذه الحالة تضمر المواهب، وتتراجع الملكات الأدبية، فالتحفيز ضروري، من خلال اقامة المسابقات، وحلقات العمل، ودون ذلك لا نوجّه اللوم لـ”غيلان” حين يهدي مخطوطات والده لمكتبة الكونجرس الأمريكي، ولا نعتب على ابنه بدر، طالب الطبيّة، وحفيد الشاعر الكبير، لأنّه لم يحفظ من شعر جدّه “أنشودة المطر” الخالدة!