23 ديسمبر، 2024 9:18 ص

هم جرثومة بلاء العراق

هم جرثومة بلاء العراق

الدول احياناً، كالافراد. تمرض، يصيبها برد، تنتابها حمى، تضربها انفلونزا، تشعر بدوار او بوجع رأس او بمغص حادـ تكسر يدها او رجلها، او عمودها الفقري او حوضها او قفصها الصدري. تصاب بعدوى حادة او بمرض جرثومي او بوباء، وقد تشفى وتعيش وتكتسب مناعة، وقد تسقط تحت وطأة المرض وتموت وتتحلل….
العراق اليوم، دولة مريضة بالمفهوم السياسي/ الاجتماعي. مريضة منذ عقد، تاريخ بداية ما نعرفه اليوم بالسقوط.
ما لا يعترف به الجميع، هو ان عراقنا كان دائماً دولة مريضة في السلم والحرب وما بينها. والذين يتذكرون بحسرة الايام الخوالي يقولون ان العراق كان رافلاً بالبحبوحة والازدهار والطمأنينة. واطلقوا على هذه على هذه الحالة ما سموه بالمعجزة العراقية. وكان هذا التشخيص خاطئاً، البحبوحة كانت ورماً. والازدهار كان سرقة. والطمأنينة كانت سيكارة تحشيش.
ما حدث في العراق، ولا يزال يحدث ويتفاقم كل يوم، لم يجر له مثيل في اية دولة عربية اخرى. ونحصر التشبيه في الارض العربية حتى لا نوسع المساحة ونسقط في التعميم.
افظع مأساة في تاريخ العرب الحديث هي ما اصابت الشعب الفلسطيني، ثم الشعب اللبناني. لكن الفارق بينهما ان النكبة الفلسطينية هي من صنع غزاة خارجيين، اما النكبة اللبنانية فهي من صنع اللبنانيين انفسهم، اما نكبتنا وكارثتنا فهي من صنعنا اولاً واخيراً.
آثار المرض واضحة لكن العلة مجهولة، لذلك لم تنفع قائمة العقاقير في تأمين الشفاء.
في العراق جرثومة تنخر عظامه وعظمته منذ الاستقلال، اختلفنا في تسمية هذه الجرثومة، وانكر البعض وجودها اصلاً.
من عيوبنا- الهنبلة- والتمسك بالمظاهر، وخداع الذات، والمكابرة.. كثير منا عندما تخلو جيوبهم من المال، ويفلسون، يعالجون الحالة بالمبالغة في الاناقة، وفي الاستدانة… والذين انكروا وجود الجرثومة كانوا يستنكروا ان يكون العراق مثل غيره من البلدان، معرضاً للاصابة بالامراض، فقويت الجرثومة، واستعصى الداء.
الحرية لا يمكن ان تكون مرضاً، ولا الحرية داء. نقطة الارتكاز في بناء الكيان العراقي كانت الطائفية. وكأن الذين هندسوا هذا البناء السياسي خجلوا من انفسهم، فلم يعترفوا رسمياً بالطائفية، ولم يضعوها في الدستور، وتركوها في اطار ما كان يعرف بالعرف الاجتماعي، وخجلوا من انفسهم مرة اخرى فلم يقروا هذا العرف في وثيقة مكتوبة وتركوه ليكون نوعاً من التفاهم الشفوي والعضوي العلني او الضمني. ومات الذين استحوا، وجاءت اجيال ذات سلوكيات انحطاطية وانكشفت كل الاستار، وظهر ما كان مخفياً…
ما سر هذا المرض الذي ينهش العراق وجعله فريداً وفذاً في سلمه وفي حربه؟ انه ليس الطائفية، ولا المذهبية، ولا الطبقية، ولا الحزبية، ولا الدستور، ولا العرف الاجتماعي، ولا كل الاوساخ التي طفت على السطح طوال سنوات ما بعد 9/ نيسان او بالأصح 9/ عارنا، ولا تلك التي ترسبت في القاع.
العراق مريض بحفنة من الرجال، تنطحوا لزعامته، وهم لا يعبدون الا رباً واحداً هو المال. رجال غلاظ القلوب والعقول، متحجروا العواطف، قساة، ظالمون، ماكرون، دهاة. لا تسقط لهم دمعة اذا قتل ابن لهم او حفيد وتناثرت شظاياه في مدرسة ملغومة او سيارة مفخخة… بل يشعرون بسعادة ضمنية لان الذي مات هو واحد غيرهم وليس هم، حتى ولو كان هذا الواحد من فلذات اكبادهم.
العراق مريض بهذه الحفنة من التجار الفجار الكفار الذين هم طائفة واحدة من مختلف الطوائف، ومذهب واحد من كل المذاهب، ولهم رب واحد هو غير اله كل البشر، وهم متكافلون متضامنون في ما بينهم، يحافظون على بعضهم بعضاً. انهم حلف الشر الحقيقي في مواجهة الشعب العراقي بكل طوائفه….
التجار الفجار الكفار… هم جرثومة بلاء العراق في السلم والحرب، وهم قتلة العراق، وهم جلادوه، وهم حلفاء الجهات الخارجية، وهم سر استمرار كوارثنا التي تغدق عليهم نعيم ملايين الدولارات…
الحرب الاهلية، الاقتتال الطائفي، الصراع المذهبي… في العراق انتهى- ولم ينتهي- يوم بلغ سعر الدولار اكثر من الفين دينار، وهذه ليست بشرى، انها نذير… لقد انتهى الاقتتال الطائفي لتبدأ انتفاضة الجياع، انتفاضة تشبه ما جرى في فرنسا- مع فارق التشبيه- يوم كان الملوك في واد والشعب في واد. يوم شاع الظن قديماً انه يمكن معالجة انتفاضة الجياع بحفنة من البسكويت. فهل يمكن معالجة انتفاضة جياعنا اليوم بحفنة من الدولارات؟!
[email protected]