المتابع الحريص لأحاديث العراقيين، وأمانيهم، ومقترحاتهم، ومطالبهم، وشكاواهم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة سيجد نفسه مأخوذاً بقدراتهم المريرة على عكس شجون وطنهم وشؤونه، وحياتهم اليومية الشاقة الرثة، مع إنهم يعيشون في بلدٍ لا حد لثرائه المادي والروحي.ومطالبهم المشروعة في الأمن والاستقرار والرفاهة والعدل الاجتماعي- الإنساني، وكلّ ما تنطوي عليها جوانحهم المملوءة مرارة لما عصف ببلدهم وبأحلامهم وآمالهم التي شيدوها بعد سقوط النظام البعثي ، ويقينهم الراسخ في أن ما حصل لبلدهم ولهم مرّ عبر مخططات وخفايا لم يكونوا يتوقعونها. والمتابع ،حتى البسيط، يرى العراقي قد تجاوز سواتر الخوف وموانعه، كما تجاوز القلق وحسابات النتائج لما قد يحصل له، من السّلطة، في حال إشهاره مطالبه، وإعلانه شكواه وتذمره من تردي الأوضاع، ونقمته على من يقف وراءها، مقتنعاً بأن إفصاحه عن معاناته لن يقوده إلى الوقوع تحت طائلة الـ”شكوك والاتهامات الرخيصة والهواجس الأمنية” بعد أن استعاد حقه في إبداء الرأي العلني عما يحسه أو يتطلع له وحتى يحلم به . ما يستوقفنا، في هذا المجال، هو ردود المسئولين على ما يطرح في وسائل الإعلام من قبل المواطنين، وهي ردود تتخذ في الغالب طابع تبرير الأخطاء والخطايا والدفاع عن المصالح والنفس. وأحياناً يجري التقليل من قيمة ما يطرح، أو يصار إلى نثر الوعود لمجرّد تزيين الوجه.. ثمة من المسئولين مَنْ يرد بانفعال مبتعداً عن روح التحضر في التعاطي الايجابي مع مشاكل قائمة يعاني منها مواطنون أسوأ معاناة، ويفصحون عنها في حضرة الإعلام.. وهناك من يتجاهل بإصرار واستنكاف ما يطرح. وأحاديث المسئولين في الإعلام أو ردودهم التي تنشر تتجاهل الملاحظات المخلصة التي ترد في أحاديث الناس وشكاواهم من سلبيات أوضاع ينشرونها ويستغيثون بها عبر الصحافة الوطنية المستقلة بغية معالجتها خدمة للعراق وشعبه الذي يواجه محناً لا عد ولا حصر لها. ويصل الأمر ببعض المسئولين إلى الحدّ الذي يجعله يتهم مواطناً شكا حاله، أو عبر عن سخطه على وضع خدمي متردٍ وأمنيٍ أكثر تردٍ، بأنه “يخدم مخططات الأعداء في تعطيل مسيرتنا وعملنا خدمة لجهات بديلة أو عدوة” وهو منطق يحيل إلى ما يسمى بـ” نظرية المؤامرة” و”التخوين” اللذين هما ليسا من صلاحيات المسئول مهما كانت وظيفته أو موقعه في سلطة القرار السياسي- الإداري لأنه هنا قد منح نفسه حق الحكم على الناس بـ”النوايا”خلافاً للدستور والقانون وسلطة القضاء الذي لابد أن لا تعلو عليه أية سلطة ما. وبمواجهة شكوى عامّة مخلصة ، لا يتورّع مسئول آخر عن دعوة جهات معينة إلى “التحقيق في موضوع الشكوى لمعرفة الدوافع الخفية وراءها”. والأجدر به- المسئول بالذات – أن يناقش ما ذهبت إليه الشكوى والتحقيق في موضوعها وهو غير خافٍ على احد بعد هذا الفيض الإعلامي الذي يجتاح العالم.. لا اللجوء لـلـ” التكتم” أو” نكران” السلبيات والنواقص التي ترافق عمل المؤسسات وعدم كشف الحقائق” بحجة أن ثمة :”تعليمات من جهات عليا” تمنع التصريح للصحافة والأعلام ، واعتبار ذلك تشهيراً يقتضي اللجوء للقضاء والمطالبة بمليارات الدنانير كتعويضات، وكأننا في سوق للأوراق المالية، لا في بلد يجب أن نحتكم فيه جميعاً للدستور والقضاء ، وعلى المسئول المعني ،مهما كان موقعه السياسي و الإداري ،كشف الحقائق أمام الجميع وبوسعه المطالبة بحق الاعتذار فيما إذ اثبت بالوقائع والوثائق، ما يخالف تلك الشكوى وذلك الرأي ، وهو حق معنوي حضاريٍ راقٍ تسقط أمامه كل التعويضات المالية.نواجه حالياً سواتر ومعوقات وحدوداً وخفايا لا يرغب اغلب المسئولين في أن تظهر للعلن فهم يعتقدون أن مهمتهم التستر على أوضاع مؤسساتهم ودوائرهم التي ورثوها عن نظام بشع دمر كل شيء في الحياة العراقية، فأحاطوا أنفسهم بمكاتب “إعلامية” مهمتها تجميل صورتهم وصيانة أسرارهم ، إذ يعتقد شاغل هذا المنصب، ومَنْ انتقاه في “مكتبه الإعلامي” ، أن مهمته تنحصر في “تزيين الواقع الراهن وتجميله” ولجم الإعلام الحر المستقل الذي ينقل بأمانة الحياة الشاقة للمواطن العراقي وما يواجهه من أزمات خانقة اقتصادية وخدمية وسياسية واجتماعية ، وان ما يظهر للعلن يجب أن يأتي وفقاً لتوجهاته وتصورات حزبه وجهته وطائفته التي احتكر تمثيلها دون وجه حق أو تفويض منها. وهكذا غدت الاتهامات تصيب كل من يسعى لنقل الحياة اليومية المريرة بأزماتها المتجددة المتواصلة أو من يتساءل عن جدوى إجراءات عقيمة أو من يسلط الضوء على تردي الخدمات وفساد الذمم والضمائر والخلل في عمل مؤسسات الدولة التي في صميم عملها خدمة الناس وتسهيل حياتهم ومعاملتهم برفق وعدالة لا ” التأمّر عليهم” أو”حَلبهم”. أما كشف المستور ووضع الأمور تحت مجهر الإعلام وعرض الحقائق والوقائع فإن هذا من أبشع المحرمات في عرف بعض المسئولين الذين يتجاهلون الحراك العراقي الذي يحاول الإعلام الحر المستقل نقل صورته الراهنة. وبات في عرف بعضهم والتابعين لهم من المنتفعين ، أن الحديث الموثق عما يجري في المؤسسات العامة من هدر للمال والوقت واستحواذ وتمييز طائفي و جهوي أو فئوي، يدخل في باب ما يسمى بـ” التسييس”. وكم تم الإعلان عن حرائق ونيران التهمت طوابق كاملة في بعض الوزارات والمؤسسات، واختفت إلى الأبد معها ملفات وعقود وتعاقدات لها علاقة بمصائر الناس ومستقبل بلدهم وصحتهم وأمنهم وقوتهم وخدماتهم. ويعزو بعض المسئولين ذلك دائماً إلى “تماسٍ كهربائي” مدّعين أنه سيتم التحقيق لمعرفة المقصر. ودوماً لا أمل هناك في إعلان نتائج التحقيق، ناهيك عن معرفة المقصر ذاته، الذي يذوب وتذوب معه كل الأسرار والأشرار، ثم ينتهي كل شيء بصمت وسكون وتسجل تلك (النيران) التي تسعر نارها قلوب وضمائر العراقيين “المستضعفين” على “فاعل مجهول” لا أمل أبداً العثور عليه. أما ما يعانيه العراقي في مناطق تصنف بالـ “آمنة”من استباحة وتمييز وتهديد وغدر، ووضع ما يحدث فيها أمام الرأي العام لإيقافه وتخليص الناس من فتكه وشروره فإن ذلك يقع تحت ما يسمّى،حكومياً وحزبياً متمكناً بالـ”تهويل الإعلامي المغرض والمعادي” دائماً!!. على رغم كل الفيض الإعلامي المستقل الحر وقد وضع كل ما يجري في العراق وشعبه في قلب العالم إعلاميا.