23 ديسمبر، 2024 6:17 ص

همساتنا أساسُ الحضارة

همساتنا أساسُ الحضارة

همساتنا الفلسفية(1) حقاً تمثل أسس ألحضارة الحديثة الضامنة لسعادة الأنسان و تحقيق (الآدميّة) في وجوده .. لكن فهمها بوعي و دقة يحتاج إلى مقدمات و معارف كثيرة, لأنها: همساتُ فكر من آلقلب الباطن و ليس العقل (الظاهر) لبناء الأنسان قبل بناء العمارات و الأبراج, من حيث لا فائدة فيها إذا كانت الأنسانية محطمة و كئيبة.

و إذا كان من غير المُمكن طرح كل المقدمات و المعارف التأهلية للدخول في عمق الموضوع الذي يناسب المفكرين, فلا بأس من آلأشارة لـ(مُقدمة المُقدّمات) على الأقل كمدخل للبحث: لأن ألكاتب و آلسياسيّ و ألباحث ألأكاديميّ و “آلبروفسور” أو حتى “مراجع الدِّين”ليسوا بمفكّرين” كما “ليسوا بفلاسفة ناهيك عن (آلحكماء) فهذه المرتبة لا ينالها العلماء إلا نادراً.

(ألمُفكّرون) قليلون في هذا آلورى و(الفلاسفة) أقلّ و (الحكماء) أقلُّ من القليل و يندر أن يجود الزمن خصوصا زماننا هذا بمثلهم؛ إنّهم بمثابة ألمراجع الفكريّة و ألفلسفيّة و الرّوحيّة الكونية للبشريّة بعد الأنبياء و المعصومين(ع) لكونهم البوصلة الوحيدة في هذا العصر المضطرب المحزن بإتّجاه آلمحبّة و آلصّلاح و السّلام و آلتّقدّم و آلعدالة و الأمان لبناء صرح (ألحضارة) الأنسانيّة و (المدنية) ألراقيّة لنيل ألسّعادة كغاية في الوجود, فالفلاسفة وحدهم قادرين على زرع المحبة في النفوس لأحيائها لخلق الحضارة, كون الأنسان يتّكأ على المحبة للأبداع كما تتّكأ الأشجار على الأرض للثّمار.

ألفيلسوف أو (ألحكيم) كآلياقوت الأحمر و الزّبردج لا يحصل إلّا نادراً, لذلك إنتبهوا و لا تفرطوا به إن ظهر بفضل الله أحياناً فقد لا يُعوّض, و إنّه من الممكن للكادح”ألباحث” أن يصير مجتهداً دينياً أو سياسياً أو أديباً أو طبيباً أو مهندساً أو مُتخصّصاً في آلطب و الهندسة و الأقتصاد و المال و الأدارة و الجيش و الفيزياء و الكهرباء و الكيمياء و غيرها كمهن لأجل لقمة العيش .. و قد يصير كاتباً صُحفيّاً أو حتى مرجعاً دينيّاً؛ لكنّهُ لا يَصِلَ بسهولة مقام و درجة (ألمُفكّر) ثمّ (الفيلسوف) أو (الحكيم) إطلاقاً إلّا ضمن شروط و مؤهّلات خاصة و مُعقّدة و نادرة لا تخلو من العناية الرّبانيّة لتحقيقها في وجود الباحث المخلص أو (مرجع الدين ألتّقي) أو (المفكر ألكونيّ الحقيقيّ)!

(ألمُفكّر) شيئٌ آخر .. إنّهُ مجمع آلمعارف و العلوم و الفلسفات من جهة – و من جهة أخرى يملك بصيرة ثاقبة يتصل بقلبه بآلله تعالى, لأنّ مهمّته هي خلق الأفكار و ألتّنبؤ بما لم يحدث بعد من خلال إنتاج الأفكار السّامية الجديدة و ألنّظريات و آلرّؤى المستقبليّة السّتراتيجية و التّنظيرات ألعميقة ألجامعة .. السّابقة للزّمكاني لأحياء ألبشريّة عبر آلأنتاج و التطور و النظم الأدارية الحديثة.

أنّهُ لا يُكرّر .. بل يرفض التّراكم التأريخي و التكرار و الأجترار مع تغييرات شكليّة و كما هو السائد بين معظم إن لم أقل كلّ المؤلفات السياسية و الدّينية و التأريخية و آلأدبية بما في ذلك (الرّسائل العملية) التي لا تُعدّ سوى تكراراً و قتلاً للوقت و هدراً للأموال و ضياعاً و تيهاً في مسيرة آلشّعوب و الأمم لعدم وجود التجديد و آلتطور و الحكمة في مسائلها!

ألفيلسوف و آلحكيم ألذي يتقدم على الفيلسوف بدرجة أو درجات مُنتجٌ كونيٌّ كريمٌ لا تحدّهُم حدٍّ أو هويّة أو وطن, أو إقليم, أو حزب أو حكومة أو حتى قارة .. لكونهم تجاوزوا مدار آلنّفس و آلجسد الماديّ و آلقبيلة و آلحزب و آلحكومات وآلأوطان و أصبحوا كونيين بعد ما إتّصلوا بخالق و أصل نغمة ألوجود الحي بوجود الله المتمثلة في وجوده من خلال العشق الذي جرّهُ لقطع الوديان و المسافات للوصول إلى مدينة العسق ألتي لم أسمع أطيب و ألذ مما فيها من الأستقرار, متجاوزين بتلك الأسفار الكونية كل مدارات (ألعقل الظاهر) إلى حيث (العقل الباطن) لمعرفة و كشف آيات (الآفاق) و (الأنفس) لأدراك حقيقة الوجود في وجودهم و كدحهِم عبر مدارج ألمعرفة الشّاملة بأخلاصٍ و حكمةٍ!

بكلمةٍ حكيمة و وجيزةٍ؛ (ألفيلسوف الحكيم) وريث الفكر الأنسانيّ ألكوني – ألآدمي ألمُمتدّ من وصية الله التي حملها آدم (ع)(2) و أتى بها من الجّنة لحفظه و نجاته من الأخطار و المهالك و المحن الكثيرة في الأرض, وتلك كانت أمانة لله تعالى عبر سلسلة طويلة من الأنبياء و آلأولياء .. تجاوزت الـ 124 ألف نبي و مرسل و وصي حتى وصلت لخاتم النبيين محمد(ص) ثمّ أئمة الهدى فصاحب العصر(عج) أخيراً و الذي به سيملأ الله الأرض بعد تطبيقها – الوصية – عدلاً و سلاماً و أمناً و رخاءاً. و آلعراق رغم أنّه مركز التأريخ و آلحضارات .. لكنّه للأسف ألشّديد كما بلدان العرب والعالم خُلِيَت اليوم منهم و من آثارهم و آياتهم بخلوّها – من المفكرين و الحكماء – أو كان خالياً بآلأساس إلاّ ما ندر في أحقاب سابقة, لذلك إبتليت بآلتّدمير الذاتيّ عبر آلأرهاب العسكري و السياسي و آلفوضى و آلظلم و الدّين التقليدي القشري بعد ما تسلّط على الناس سّياسييون و أحزاب وضعية لا يفقهون قولاً من الدِّين الحقيقيّ أو الفكر كما الفلسفة و الحكمة, فصارت السرقة حلال و النفاق واجب و نصرة ا لمستكبرين من أولى الأوليات و بلا حياءٍ بل إعتبروها جهاداً و حلالاً زلالاً فكانت النتيجة خراب الوطن و المواطن مقابل بناء بيوتهم آلشخصية معتبرين ذلك حنكةً سياسية, و ما تمسّكهم بآلدّين (التقليديّ) الظاهري إلاّ لكونه يفسح المجال أمامهم للتلاعب بأحكامه و قوانين العدالة و حقوق النّاس كغاية لأحزابهم للحكم في عقيدتهم التي لا يرون من خلالها سوى تحقيق مصالحهم ألشخصيّة و آلعائلية و الفئويّة و آلحزبيّة بعيدأً عن سلطة الولي الفقيه العادل ألذي يريد تطبيق آيات الله و العدالة الأسلامية في المجتمع, و لذلك صار الظلم طبيعياً والفساد شرعياً .. ليس في العراق فحسب .. بل في كل بلاد العالم مع بعض المفارقات الشكلية بين الشرق و الغرب!

أمّا (الفلاسفة الحُكماء) المظلومين عبر كل الأزمان؛ فأنّهم و على الرغم من كونهم عصارة الحركة العلمية و الحضارية و النُّخبة المُستخلَصة في كلّ عصر و مصر من خيرة و أبرز المفكريّن ألّذين يتركّز دورهم في ترجمة أفكار الفقهاء و المُفكريين الكبار و الفلاسفة و الحكماء لأتباعهم المثقفين و آلأكاديميين الّذين لم يصلوا درجة الحكمة النظرية و حتى العملية في (فلسفة العلم) و هم يُحاولون تقرير و ترشيد ألمناهج و تطويرها و حتى رعايتها لبناء (الحضارة ألرّاقية) عبر بيان أجوبة واضحة لمشاكل العصر و للأسئلة (السّتة) المعروفة للتنبؤ بآلمستقبل لتحديد المسار الصحيح للبشرية جنبا إلى جنب مع بيان حقيقة و أسباب خلق الوجود و ماهيّة ودور الأنسان و كينونة و جمال الخالق لينعكس على أخلاق المخلوق و معنى العدالة .. و لماذا العدالة حسنة؟ و لماذا آلظلم قبيح؟ و الجّمال جميل؟ و لماذا خلق الله البشر؟ و غيرها من الأسئلة المصيرية؟

و لعلّ الثورة الأسلاميّة المعاصرة بقيادة الأمام الحكيم, هي اليوم الحكومة الوحيدة التي تتبنّى تلك المبادئ و المثل العليا في نهجها لتطبيقها كأصدق تعبير عن ما أوردناه في هذه المقدمة الفلسفية الهامّة, و التي نأمل أن تكون بداية لحلقات حِكَميّة لمشروع النهضة الأنسانيّة الحديثة و المستقبليّة عبر (همسات آلفكر) التي قطعنا فيها أشواطاً عديدة حيث سنستمر ببيان الأولويّات ألعلميّة و المناهج ألكليّة المحكمة لتقويم الأخلاق و لتنفيذ المشاريع (المدنيّة) و (العمرانيّة) جنباً إلى جنب لأسعاد و أمن و سعادة الأنسانيّة التي تئن و بشدّة من وطأة المتسلطين الظالمين عليها من خلال الأقتصاد و لقمة الخبز التي أصبحت صعبة المنال لأكثر الناس و في أكثر بقاع الأرض بسبب سياسات و تسلط (المنظمة الأقتصادية العالمية) التي تسعى لتعبيد الناس لها من دون الله!

إنّ جهل و جشع و غرور الحاكمين في تلك المنظمة المحمية بآلأحلاف و القواعد العسكرية التي ينفذ مآربها ألسّياسييون و آلحاكمين في كل بلدان العالم تقريباً قد سبّب إنتشار الظلم في الوجود كلّه لأنانيتهم و هشاشة و سطحيّة متبنياتهم ألفكريّة و أهدافهم المحدودة الضّيقة لنفوسهم و آلتكبر في تعاملهم مع حقوق و كرامة (الخلق) و (الخالق), خصوصا الفقراء منهم – إنّ لم نقل ألأستهزاء بها – حتى جعلتهم أنانيين و حاقدين على الفكر و أصحاب ألفكر الحقيقيّ ألذين يُؤمنون بآلأنسان و بآلغيب و يُقيمون الصلاة و ينفقون ممّا رزقهم الله, لذلك إستمرّ الخصام و الفرقة بين الطرفين؛ أحزاب السياسة وطلاب الحكم الذين يريدون فصل الدّين عن الحياة للتلاعب بنصوص الحقّ لسحب البساط من تحت أرجل المستضعفين.

لذلك كان الصراع قائماً و في كلّ عصر ومصر و لا يزال؛

قابيلاً مقابل هابيل .. فرعوناً امام موسى .. معاويةً أمام عليّ .. صدّاماً أمام الصّدر .. ألخميني أمام الأستكبار, و هكذا حاولوا فصل الدّين الحقّ الذي هو المصدر الوحيد للأخلاق والقيم الأنسانية العليا عن الأقتصاد و السّياسة ليحلّ الفساد و الظلم و الأرهاب و الأستغلال و آلألم محل العدالة و آلمساواة في كل مكان من قبل الحكومات المفضلة على مقاييسهم! ليستمر آلظلم و الفساد و التخريب الذاتيّ في البشريّة .. كلّ البشريّة!

فخلال فترة حكم الأنظمة الظالمة في الحقب الماضية و الحالية قُتل جميع آلمفكريين ألحقيقيين و الفلاسفة وحتى الأئمة من أمثال الفيلسوف (محمد باقر الصّدر) و (المدرس) و (الحلاج) وصولاً لأئمة الهدى ثمّ أنبياء الله الذين بلغ عددهم أكثر من 124 ألف نبيّ مع أوصيائهم و في هذا العصر شهدنا كيف إن أنظمة الكفر الأستكبارية حاولت و تحاول إجهاض دولة المُفكّر الحكيم الأمام الرّاحل و تلامذته الأتقياء الأخيار لأنهم وحدهم يفقهون و لو بشكل نسبي الحقّ و يقفون أمام ذلك الشّر الكبير و المنكر العظيم بقيادة الشيطان الأكبر و أذنابهم ألذين إعتبروا قتل علاء الذرة و الحكماء و إبعاد المفكرين الذين لا يتأقلمون و لا يُنفّذون إرادتهم؛ جهاداً و سبيلا لدحض الحق!

و إستمر الأمر حتى هذا آلزّمن حين تنكّروا و ألحاكمين معهم لشرعية النظام الألهيّ المُقدّس لحكومة العالم .. بينما يعتبرون جميع الأنظمة الوضعيّة شرعية و مقدسة, حتى تلك التي ما زالت تذبح الناس بآلسيف ولا تسمح للمرأة من قيادة السيارة أو المشاركة في الانتخابات!

إنّ مجيئهم – أيّ ألمفكرون و المُثقفون – للسُّلطة بقيادة الفلاسفة و الحكماء؛ يعني تحكيم العدالة الأجتماعيّة, الذي يعني من باب تحصيل حاصل نهاية الظلم و الحروب و الأرهاب الذي سبّب الحروب التقليدية و النّووية؛ و يعني في نهاية المطاف تحقّق إرادة الله تعالى ألتي حاول جميع الأنبياء و المرسلين تحقيقها!

بكلام حكيم؛ يعني أنهاء الطبقيّة و التكبر و التميّز و الفقر في المجتمع الأنسانيّ, و إحلال الأمن و العدالة و الرفاة و السعادة بدل ذلك.

أخيراً يعني تحقق فلسفة الحياة و معنى الوجود و المحبّة و التواضع و آلسلام بدل الحروب و ألأرهاب و الظلم و الكراهية و قطع دابر آلسّرقات و آلخيانات و آلتّكبر و الخداع و آلتّدليس من قبل المتربعين على عرش المال و الأقتصاد و ألسّياسة في العالم بغير آلحقّ!

و هذه الحقيقة لا تروق للأمراء و الرّؤوساء و ذيولهم في آلأحزاب و البرلمانات و آلرئاسات الثلاثة لعلمهم بأنّ مجيئهم – أيّ المفكريين – هي نهاية الفساد و النهب و الأرهاب و الظلم و الحرب و إنقطاع منافعهم, و لهذا تأزّمت معاداتهم للفكر ولأهل الفكر و حقوق الأنسان من الأساس و من الأزل حين رفض رئيسهم الشيطان السجود لآدم .. لآدم لا للبشر, و من المؤسف أن بعض المُدّعين للتّنور و المعاصرة يسيرون من حيث لا يعلمون في تحقيق هذا النهج الخطير و المُدمّر للبشريّة!

لذلك لا سبيل للنّجاة و الخلاص من الظلم و الطبقية؛ إلاّ بتبني منهج الحقّ – الذي جسّده الأمام عليّ(ع) في الواقع كنموذج عمليّ و دعم و إعداد الطبقة ألمرجعيّة المثقفة فكريّاً و روحيّاً من قبل (الفيلسوف الحكيم) الذي يتصدى لقيادة ثورة (المستضعفين) ضد ثورة (المستكبرين) .. لتحكيم فلسفة و فكر أهل الفكر و الفلسفة و الحكمة لتحقيق آلأمن و السّعادة كغاية عظمى للوصول و الذوبان في المعشوق الأزلي جلّ و علا للبدء بآلسفر نحو الله عبر المحطات السبعة لعطار النيشابوري .. لكن بعد سلسة من البرامج ألتطبيقية و الآليات و السّلوكيات عبر محطات العشق للوصول إلى الحقّ و الذوبان فيه و الفوز بنعيم الدارين(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هي الهمسات الفكريّة الكونيّة التي صُدرتْ منها لحد الآن أكثر من 170 همسة, يمكنكم مراجعتها إن أردتم المعرفة؟
(2) تفاصيل و متن (الوصية) موجودة في الكتب التأريخية و منها؛ (تأريخ اللواساني), حيث ذكر الباري فيها أسماء أهل البيت كدعاء لنجاة الأنبياء من الأخطار و البلاء, و قد عثر عليها علماء الآثار مكتوبة في لوحة من بقايا سفينة نوح(ع).
(3) ألسّعادة الكاملة لا تتحقّق إلا بظلّ الأمن على كل صعيد بالمرور في مدن (العشق) و عبور آلمحطات السبعة ألتي عرّفها (الشيخ الأنصاري) من خلال 52 مرحلة, بعد أن عرضها آلشيخ الأكبر (محي الدّين بن عربي) خلال مؤلفاته العرفانية, ثمّ إختصرها بحكمة متعالية الشيخ (فريد الدّين العطار النّيشابوري) بسبعة محطات مثّلتْ(مُدن العشق) كسبيل أمثل لتحقيق فلسفة الوجود و هي بإختصار: الطلب – العشق – المعرفة – التوحيد – الأستغناء – الحيرة – الفقر و الفناء. و لمعرفة التفاصيل حولها راجع؛ (أسفارٌ في أسرار الوجود).