22 ديسمبر، 2024 3:33 م

هما الُشطّ ُ والنخلُ والنوارسُ وابداعٌ لا ينكفيءُ

هما الُشطّ ُ والنخلُ والنوارسُ وابداعٌ لا ينكفيءُ

كان بودّي لو أكتبُ عن أفراح الناس لا عن أتراحهم .فقد ورِثَنا الترحُ وورثناه أباً عن جد  ، مذْ قمّطتنا الحياة ُ بألوانها الكاذبة. لكنّ لكلّ حالة استثناءً .. وحين نفقدُ عزيزاً علينا ينكسرُ القوسُ ويطيشُ السهمُ . وذا يرحلُ عن البصرة مبدعان جميلان كلاهما أحبّ مدينته وكتب عنها ما يُشبهُ الإعجاز . فمحمود عبد الوهاب لم يُعد حياته حياة ً الا اذا لامست خُطاه أديم بصرته وتنشّق قلبُه رحيقَ أفضيتها الخضر / بشوارعها التي تعرفه من أصغر حصوة حتى أسد بابلها المحتضر ، ومكتباتها ومقاهيها ومعاهدها / لذا امتزج دمُه وضميره وكيانه وقلمه بأنفاس البصرة واناسيها. ففيها نشأ وتعلّم وكتب وكوّن صداقاته مع الآخرين / مع المثقف ورجل الشارع البسيط/ قال لي مرّة ونحن نغادر مكتبة فرجو : حين أمرّ في الطريق الى أيّ مكان يناديني صباغو الأحذية : استاذ محمود تفضل نصبغ حذاءك، وكذا سائقو التكسيات ، وما أنْ ألج السيارة حتى يقولُ سائقُها : أنا أعرف بيتك . هكذا كان علماً من أعلام بصرته ، مثلما كان علماً عراقيّاً وعربيّاً يعرفه المثقفون من أقاصي المغرب حتى شواطيء الخليج . مؤسفٌ أن تفقد مدينتّه هذا الفتى الأنيق الجليل الذي لم يؤذ كائناً مَنْ كان .

وكذا الحالُ مع مهدي محمّد علي الذي رحل قبل اسبوع من رحيل محمود . وهو / أيضاً / شغفت روحُه ببصرته وكتب عنها أفضل كتاباته / البصرة ُ جنة ُ البستان / فمَنْ لا يعرف مدينته فليقرأ هذا السفر الجميل” جنتَه” ويتعرّفْها حاضنة َ وئام وثقافة ، وكينونة خصب أبدية ، وتأريخاً من التراث الفكري أنجب أعظم المبدعين . مهدي هاديء رصينٌ بعيد عن الادعاء والجعجعة فلم اسمعه أبداً / وكنا زميلين عملنا معاً في اعدادية الكفاح / يقول : أنه شاعر .. وشعرُه مثله ساكنٌ هادي عميقُ الغورعذب الإيقاع  ، بلا تضاريس ولا عقد ، يلامس الحياة اليومية بكلّ ارهاصاتها سلباً وايجاباً. أذكرُ انني طلبتُ اليه في احدى ساعاتنا الشاغرة أن يقرأ عليّ شيئاً من شعره / وكان ضنيناً في النشر / وقرأ على استحياء نصوصاً منه واحسستُ أنه أصابني بصاعقة زلزلتني  . فما كان أعذبَه وأعمقه وأصدقه . منذئذ ٍ تعمّق احترامي ومحبتي له . مهدي ترك بصرته ابّان الحملات الشرسة التي شنّها النظام الصدّامي القمعي ضدّ اليسار العراقي عام 1997 . بعضُهم فرّ ووجد ملاذاً آمناً في منفاه البعيد ، وآخرون اُعدموا في ليل الظلام الديكتاتوري ، منهم على سبيل المثال الفتى الجميل جليل المياح والمثقف الموسوعي الصُلب محمد البطاط ” ابو زيتون” . الأول يربطني به مشروع 12 قصة مع كوكبة من قصّاصي البصرة ، والثاني صادقته في ايران غداة َ هروبنا اليها بعد انقلاب شباط الدموي . وظلت علاقتُنا قائمة حتى ساعة اختفائه .

ولا أظنّ أنّ أيّة مدينة عراقية نالها ما نال مبدعي البصرة من حيف وقمع ومطاردة وتصفية . لكنّ الإبداع فيها مثلُ مياه الشطوط والنخل الباسقات وطيبة أهلها التي يعجزُعنها كلّ وصف .ولو احصينا عددَ مبدعيها  / شعراء وقصّاصين وموسيقيين وتشكيليين ومسرحيين/ ممَنْ غيّبهم الموتُ والمنافي من مبتدأ الخمسينيات لكانوا عددَ النوارس السابحة فوق شط العرب ونهرانه المتفرعة منه . مَنْ ينسى السيّابَ ونجيب المانع والبريكان وجليل / وخليل / المياح ، وعبد الخالق محمود وكاظم الأحمدي ، ومصطفى عبد الله ويوسف حداد . ثمّ محمود ومهدي ؟؟. معذرة ً فذاكرتي لا تسعفني على تذكّر الأسماء الإبداعية الاُخرى من موسيقيين ومسرحيين وتشكيليين ممَنْ طواهم الموتُ أو المنافي .

البصرة ُ ظاهرة ٌ غير طبيعية ، مخلوق من طراز خاص، فأيّ سحر يكمنُ فيها لتكون معيناً لهذا الكم من المبدعين والعباقرة من الجاحظ والخليل والحسن البصري وواصل بن عطاء وبشار بن برد حتى آخر رقم انطفأ وخبا من هذه القافلة الفذة في صميم الإبداع والخلق والفكر .

محمود عبد الوهاب سيظلّ حيّاً ، ذاكرة ً وانساناً ومعلماً لا تُذكر البصرةُ الا ويُذكرُ معها كما الحالُ مع السيّاب والبريكان وآخرين ما زالوا أحياء يُبدعون . فقد غرس فينا محبته مذْ التقيناه حتى ساعة رحيله . ومَنْ لا يعرفه يجده في قصصه القصيرة ورواياته القليلة وفي كتاباته النقدية  . وكذا الحال مع مهدي محمد علي الذي لم يزلْ واقفاً في حنية من حنايا جنته التي ستقرؤها الأجيالُ الآتية مثلما تقرأ البخلاءَ واُنشودة المطر والقطار الصاعد الى بغداد  وهموم شجرة البمبر .

واذا كان لا بدّ من أن نخسر بين آنٍ وآن مبدعين بصريين فثمة َ في الطريق مخاضاتٌ  واعدة آيبة الينا لا تقل ابداعاً عمِنْ سبقوها . وستملأ الفراغ الذي تركه الراحلون عنا . البصرة ، مُذْ تأسست ،حاضنة ُ الإبداع ترفد ثقافتنا الجديدة  بجيل من المبدعين همُ نخلها وشطوطُها ومواويلها وحناؤها وزهوها وكبرياؤها وصدح عنادلها ودماؤها التي تمخر في شرايين الزمن .

هكذا حالُ البحر / البصرة / مرّة ً يغشاه الجزرُ فينحسر الماء وتشحبُ الضفافُ ، ومرّة ً اخرى يعروه المدُّ فيلامسً  رمال الشاطي ….

ولا بدّ قبل أن اُنهي هذه الملاحظات السريعة عن الفقيدين أن أتقدّم بوافر العزاء والأسف الى ذويهما وأصدقائهما والى رئيس وأعضاء اتحاد أدباء البصرة / وأغلبهم من طلبة الراحل الكبير محمود ومن أصدقاء مهدي / لغيابهما الفاجع . آملاً أنْ يتحلوا بالصبر . وكلاهما يعيشُ في ضمائرنا وقلوبنا ، وخللَ ابداعهما الذي تركوه لنا وللأجيال الآتية .