23 ديسمبر، 2024 8:07 م

هل يمكن ان تنجح حكومة التكنوقراط في ظل الاوضاع السياسية السائدة ؟

هل يمكن ان تنجح حكومة التكنوقراط في ظل الاوضاع السياسية السائدة ؟

يقصد بالتكنوقراط حكومة الكفاءات , وتهتم بتشخيص ومعالجة الظواهر المعقدة التي لايمكن ان يسيطر عليها رجال السياسة , وبموجبها يتم اخضاع ادارة الجهاز الاداري الحكومي للعلماء والمختصين في الهندسة والطب والاقتصاد والاجتماع وكل ما يتعلق بشؤون البلاد , وغالبا ما تكون حكومة التكنوقراط من غير الحزبيين وغير المعنيين بالحوار السياسي , وتتبع اغلب الدول المتقدمة هذا النمط بل يعده البعض سر تقدمها , لاسيما بعد ان نجحت الولايات المتحدة الامريكية في اتباعه بعد سنة 1932كرد فعل على ازمة الكساد المالي , كما اتبعتها الصين في اواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي اذ اعتمدت على التكنوقراط الذين اكتسبوا خبرات الغرب العلمية والعملية في حل مشكلات الصين واحداث التطور فيها وتشغيل العاطلين .

ومنذ سنة 2003 ولحد الان تتزايد الدعوات الشعبية لتسليم الوزارات لادارتها من قبل التكنوقراط , وقد جاءت هذه الدعوات لمعالجة اسباب ونتائج الفشل الذي تشهده اغلب الاجهزة الادارية الحكومية وانتشار الفساد الاداري والمالي وغياب الاداء الاقتصادي , فرغم الموازنات الضخمة والانفاقات الهائلة الا ان المواطن لم يتلمس تطورا ملموسا في مختلف المجالات لدرجة ان البعض راح يقارن الحال اليوم بما كان في الستينات رغم الفارق الكبيرفي التكنولوجيا والتقنيات والرفاهية العالية التي يتمتع بها العالم في الصناعة والتجارة والسياحة والنقل والاتصالات , والبعض يقول ان المزايا القليلة التي تحققت اليوم تتعلق باستخدام الموبايل والانترنيت والستلايت وهي مستوردة جميعا من الخارج وتكلف اقتصادنا مليارات الدولارات .

ان اسناد الوزارات الى التكنوقراط يحقق مجموعة من المزايا , اولها انهم على علم ودراية ومعرفة وقدرة على التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة لانهم الاقرب الى الواقع والاختصاص ولا يحتاجون للتعلم بالطريقة السائدة احيانا في اداراتنا بطريقة المحاولة والخطا , وثانيها انهم يعملون لحماية سمعتهم المهنية والعلمية وتحقيق الاهداف العليا بمعزل عن اهداف الكتل والاحزاب , وثالثها انهم يعملون تحت رقابة الهيئات المختصة بدون اية اغطية او حاضنات كما انهم يعملون تحت رقابة الكتل السياسية التي جاءت بهم وبذلك يمكن ان يبدوا حرصا اكثر لاثبات الجدارة لكي يحظوا بعوامل الاستمرار , ورابعها ان من جاء بهم لا يسمح بفشلهم لان الفشل سيحسب عليهم لذلك سيتم السعي لاستبدالهم متى ما وجدوا الحاجة لذلك دون التمسك بالخطا من باب حماية المسؤول على غرار ما حصل في الاستجوابات التي شهدتها جلسات مجلس النواب السابقة .

ولكن السؤال الذي يمكن طرحه هل يمكن ان يعمل التكنوقراط في بيئة سياسية يتم التنافس فيها على اسس ليست موضوعية في كل الاحوال ؟ فالتكنوقراط لا يمكن ان يؤدي ويطور ويبدع الا حين تتوفر له بيئة نظمية تتسم بالتكامل والترابط والشمول لان العمل الفردي لايمكن ان يعطي النتائج الايجابية مهما بلغت القدرات والرغبات , فالتكنوقرط لايستطيع ان يعمل في فراغ لانه يعمل بفعل قانون الجاذبية الادارية الذي يؤثر ويتاثر بالاعلى والادنى , فلكي يعمل التكنوقراط بشكل متفاعل فيجب ان يكون نظاما فرعيا من انظمة اخرى , وواقع الحال يؤشر ان الادارات الفرعية يتم استسهال اختيارها من باب المحاصصة والولاء اعتقادا من البعض بان وجود وزير من التكنوقراط يجيز اختيار المستويات اللاحقة على اساس الحزبية والطائفية اوغيرها من الاختيارات لان اغلب الصلاحيات المهمة محصورة عند الراس فحسب .

ومن الامور يمكن الاشارة اليها , ان النجاح الذي يتحقق في الدول المتقدمة التي تتبع انظمتها حكومات التكنوقراط ليس اساسه اداء الوزير وانما المؤسسات التي يقودها , وهذه المؤسسات فيها تراكم من الخبرات والاختصاصات يجعلها شبه ثابتة ولا تتاثر بتغيير الانظمة السياسية بالعملية الديمقراطية , لذلك فان الوزير يضيف لهم افكارا وخبرات لتسهيل تحقيق الاهداف الجديدة ولكنه لايغير النظام السائد لانه يتسم بالاستقرار رغم ديناميته وقدرته على التغير والتغيير انسجاما مع كم ونوع الوسائل الاهداف التي تتبناها القيادات السياسية , والوزير بهذا المعنى قد يكون له دور مهم في اتخاذ القرارات ولكن القرارات تتم صناعتها من قبل المؤسسات التي ترتبط به , والصلة التي تربط الوزير بالقرارات هي لغة الاختصاص والتفاهم والمشاركة في المسؤولية واستخدامه ادوات فاعلة وكفوءة لمتابعة التنفيذ من دون الخوض بكل التفاصيل .

ومن الناحية العملية فانه لا يمكن للتكنوقراط ان يعمل في ظل واقع يتسم بالتناقض واختلال المعايير وغياب العمل المؤسساتي بمعناه الصحيح , وفي بلدنا تمت اشاعة اعرافا تتعلق باختيار وزير من كتلة وتقابله لجنة في مجلس النواب من كتلة مختلفة , وهو ما ادى الى افشال التجارب المحدودة في تولي التكنوقراط في ادارة بعض الوزارات , كما ان الوزير عندما يكون من جهة معينة فان الوكلاء والمدراء العامون يجب ان يكونوا من الطيف العراقي وبذلك تغيب روحية العمل كفريق لتتحول في بعض الاحيان الى اتباع سياسة الانداد والخصوم , وهذه السياسة التي تتقاطع تماما مع عمل التكنوقراط ليست من ولادة المرحلة الحالية وانما من مخلفات الانظمة السابقة , ففي ظل النظام السابق كان يقابل كل وزارة دائرة تخصصية في ديوان الرئاسة والواجب الاساسي لتلك الدوائرهو اصطياد اخطاء الوزراء وتقديم معلومات عن اخطائهم دون انجازاتهم لا من اجل التصحيح وانما للاثبات بان دوائر ديوان الرئاسة هي افهم واعمق تشخيصا من وزارات الميدان .

ان واحدة من اشد امنيات العراقيين ان تكون الحكومة القادمة هي حكومة تكنوقراط بمعناها الصحيح , والمعنى الصحيح هو ان لايكون حاملا لشهادة في الاختصاص فحسب بل له تجارب وتطبيقات ونجاحات وافكار مؤجلة يبحث عن الفرص المناسبة لتوظيفها لخدمة الشعب , كما انها تتطلب التفرغ الكامل للعمل الاداري والمهني وعدم التاثر بالخلافات والصراعات السياسية وعدم التشبث في البقاء على اساس علاقته بالاخرين بل على قوة انجازاته وما تحققه من مكاسب للوطن مع توفر القدر اللازم من التضحية ونكران الذات والاستعداد بالاعتراف بالخطا وعدم التمسك بالمنصب فمتى ما وجد نفسه عبئا على الموقع يطلب تركه في الحال باعتذار مع الاذعان لكل ما يترتب على ذلك من تبعات , وفي ضوء ذلك كله يجب ان لانحمل المكلف بتشكيل الوزارة مالا يمكن تحقيقه في الوضع الحالي فعلى حد قول المثل الشائع ( العافية بالتداريج ) .

ولا يعني ذلك بان نشجع تشكيلا وزاريا ترقيعيا ليس له نكهة او عنوان , فالغاية من هذا الطرح هو التذكير بان بلدنا يعيش في ظل ازمات حقيقية معروفة الاسباب والتداعيات وهي بحاجة الى حلول , واكثر ما نحتاج اليه هم معالجون حقيقيون للازمات ومن الممكن ان يكون من بين التكنوقراط ممن تتوافر بهم مثل هذه المواصفات, ولكن الفرصة قد لاتكون ملائمة ان تكون الحكومة هي حكومة تكنوقراط بشكل كامل , ولغرض تجاوز الازمة والانطلاق نحو واقع افضل سنكون بحاجة الى تكاتف واسهام الجميع لانها قضية وطنية ولا يمكن حلها الا بالاعتماد على الجهود العراقية ويمكن بعد ذلك ان نطلب ما نطلبه من مساعدة الاخرين , ومن المؤكد فان حكومة التكنوقراط ( الحلم ) ستكون الملاذ الذي لابد منه عندما تتهيا البيئة الملائمة لعملهم , وهم في كل الاحوال الخبرات والقدرات والمهارات التي ستتم الاستعانة بها في كل خطوة من مسيرة الدفاع عن الوطن واعادة بنائه وتقدمه وتعويض شعبنا الحرمان .