يعترف أكثر من مسؤول أمريكي سابق أو لاحق بأنهم أخطأوا في اعتقادهم بإقامة نظام ديمقراطي عراقي بديل عن نظام صدام حسين بفئات سياسية لا يمكنهم منحها الشرعية بقوة جيوشهم الغازية.
ومنذ سقوط النظام السابق وحتى ساعة كتابة هذه المقالة فشل القادة الذين فرضتهم أمريكا في إقامة نظام ديمقراطي تكافلي ثابت القواعد والموازين، وقادر على قيادة الملايين المحبطة المقهورة إلى شاطيء الأمان. بل لا يبدو أنهم قادرون على بلوغ الحد الأدنى من التوافق فيما بينهم.
فالتوافق بينهم غير قابل للتحقق ما دامت الأحزاب الشيعية صاحبة القوة الأولى لا تستطيع ولا تنوي الوفاء بوعودها لحلفائها الكرد بحل مسألة المناطق المتنازع عليها وكركوك والنفط ورواتب الموظفين وحصة الإقليم من الموازنة. كما أنها لا تستطيع ولا تنوي سحب المليشيات من المحافظات السنية وتحرير جرف الصخر وعودة المهجرين والمفقودين كما وعدت السياسسين السنة.
كما أن الشيعة غير مستعدين لتسليم القيادة لسني لو فاز بأغلبية ساحقة. ولا السنة قادرون على قبول الهيمنة الشيعية المدعومة من إيران. ولا القادة الكرد سامحون لأيٍ كان من العرب الشيعة أو السنة بالتدخل في إدارة شؤون الإقليم. وبهذا تصبح الصورة واضحة.
وحين تحكم مصالح أحزابهم أو أسرهم بتحقيق أية صيغة للتوافق فيما بينهم فلن يعود لهيبة الدولة وكرامتها عندهم نصيب.
ألم يجلسوا على كريسي رئاسة جمهورية هذا العراق السليب واحدا بلا طعم ولا لون ولا رائحة، بلا كفاءة ولا هيبة ولا خبرة ولا وطنية، لا يهش ولا ينش، وبطريقة (إملأ الفراغات الآتية حتى لو بحجارة من سجيل؟.
وعلى هذا يمكن القول بأن أي أمل في تجاوز هذه الدوامة الدامية لن يتحقق ما دامت أحزاب الإسلام السياسي الطائفية الموجهة من إيران، والشلل القومية العربية المدعومة من دول عربية متعددة، والكردية المسيَّرة بإيران أو تركيا، هي التي تحتكر الصراع.
والذي ولد وظل ثابتا طيلة السنين العشرين من حكمهم أن أعداد المقاعد النيابية التي يحصل عليها كل فريق هي السلاح الذي يكسب به رزقه الحلال والحرام من حجم الحصص التي تتحقق له عند توزيع أسلاب الدولة العراقية المغتصبة، حتى وهو، قبل غيره، يعلم بأنها انتخابات مغشوشة، ولا علاقة للمقاعد التي حصل عليها بالديمقراطية، لا من قريب ولا من بعيد.
وعلى هذا الأساس لا يوجد أمل في أن يتحقق للشعب العراقي الخروج من هذه الدائرة المغلقة إذا لم يحدث اختراق عبقري لهذه اللعبة من خارجها، وبالطريق الثالث المتمثل في قيام تحالف يضم المثقفين والمفكرين والأدباء والشعراء والإعلاميين والفنانين الديمقراطيين العرب والكرد والتركمان والصابئة والمسيحيين يدفع بمرشحين منهم للانتخابات القادمة من الذين تحبهم الجماهير، وتحترم تواريخهم الناطقة بالنزاهة والترفع عن الانتهازية واللصوصية، من أجل انتزاع أكبر عدد من المقاعد النيابية، ما دامت هذه المقاعد هي التي تجبر أحزاب المحاصصة الشيعية والسنية والكردية على التنازل عن بعض حصصها للقادمين الجدد الذين يصعب عليها منعهم من دخول البرلمان، وتغيير مزاج الشارع الشعبي، قدر المستطاع.
وبصريح العبارة إن المثقفين العراقيين أحق بالسلطة، أو بحزءٍ كبير منها، من زمر المهربين والمختلسين والجهلة والمزورين التي تحتكر القيادة منذ عشرين من السنين.
ولنا، من تجربة الانتخابات السابقة التي جرت في العام الماضي ومن فوز عدد من النواب رغم سلاح أحزاب المحاصصة وأموالها، أسوة حسنة.
فقد فاز من يسمي أنفسهم بالمستقلين أو التشرينيين، بما يقرب من ثلاثين مقعدا، رغم أن منهم مكلفين من أحزاب المحاصصة نفسها بالترشح كمستقلين.
صحيح أن القوى الديمقراطية العراقية اليوم متناثرة ومهمشة، في ظل الهيمنة الطائفية التحاصصية المفروضة بالدعم الخارجي الإيراني والأمريكي والعربي إلا أن الواجب الوطني الإنساني الحضاري يطالب هذه القوى المثقفة الوطنية الشريفة، قبل غيرها، بالتحرك من أجل استعادة عافيتها، واسترداد قدرتها على فرض الحل الوطني الصحيح لمأزق الحكم في العراق الجديد.
فمن خلال حوارات ولقاءات عديدة مع مثقفين وأكاديميين وسياسيين عرب وكرد تقدميين تبين أن الأرض ما تزال صالحة جدا لإنبات هذا الحلم النبيل، وبدء معركة البناء الصعب لغد أفضل للجميع، وهو ما يشيع الأمل في النفوس المتعـَبة، ويضيء القلوب المحترقة، ويدق ساعة العمل.
وليس طموحُ المواطنين العرب العراقيين، شيعة وسنة، بأقل من حاجة المواطنين في إقليم كردستان إلى قيادات جديدة تحقق ولادة نظام فيدرالي ديمقراطي حقيقي عاقل وعادل وقائم على البر والتقوى وليس على القهر والاستعباد والابتزاز.
وقبل دعوة الكورد إلى رحلة العودة إلى أشقائهم عرب العراق، ينبغي أن ندعو، في الوقت نفسه، عرب العراق إلى التخلي عن العصبية القومية والطائفية، عندما يتعاملون مع الواقع الجديد لكردستان العراق.
ولتصحيح الموازنة ينبغي أن تتخلى الجماهير الكردية عن قوى التخلف القومي والطائفي، وأن تعود إلى التعاون مع القوى الديمقراطية العربية لإقامة دولة اتحادية صادقة أساسها المصالحُ المتبادلة بين شعوب العراق المتنوعة، وترمي إلى مزابل التاريخ جميع الأفكار والشعارات والأوهام الطائفية والقومية الفاشلة. فهذا وحده الضمان الأكيد لإقامة حاضر ٍآمن ومستقبل أكثر أمنا يدوم على أرضنا مئات السنين.
فأمنُ الكرد اليوم، وأمن أجيالهم القادمة، وأمنُنا وأمنُ أجيالنا القادمة، لن يتحقق إلى حين يعم العدل والوطنية والنزاهة والسلام والرخاء كلَ مدينة وقرية في شمال الوطن وجنوبه، وشرقه وغربه، في دولة فاضلة يقوده أصحاب الضمير الحي. فهل نحن فاعلون؟