لا يمكن أن يفلت المرء قط من ملاحظة هيمنة الهنود (القادمين من جمهورية الهند الصديقة) على أغلب الأنشطة الاقتصادية الحيوية عبر الولايات المتحدة الأميركية. ولطالما تساءلت في دخيلتي عن مسببات ودوافع هذا “الغزو” الهندي لاقتصاد أقوى دولة في العالم: فأما الدوافع والمسببات، فهي ليست ببعيدة المنال، ذلك أن الهند والصين هما أكبر دولتين في العالم باعتبار “الانفجار السكاني”، فالفوائض السكانية لم تعد تموت بسبب الجوع كما كان يحدث عبر التاريخ القريب؛ كما أنها لا تعمد إلى الغزوات العسكرية للأقاليم الخصبة والغنية من أجل الفوز بخبرات هذه الأقاليم الخصبة، كما حدث عندما غزا المغول بغداد (1258م). لم يعد عالم هذا العصر يسمح بهذين النوعين من المعالجات التلقائية للفوائض السكانية. لذا، فإن الذي جرى على نحو تلقائي (كما لاحظت شخصيا) إنما كان الاستثمار الهندي العملاق في برامج التربية والتعليم والتعليم العالي، إذ خرّجت الجامعات والمعاهد الهندية من الكوادر الهندية المتخصصة ما لا يمكن لأوروبا وأميركا الشمالية الاستغناء عنه من الكوادر رفيعة التخصص: من أطباء ومهندسين ومتخصصين في علوم الحاسوب والشبكات الرقمية، درجة أنك (إن كنت تعيش في الولايات المتحدة) لا يمكن أن تفلت من أن يفحصك ويعالجك طبيب هندي، درجة أن الأطباء الأميركان الأصل قد أخذوا يتلاشون، ثم يختفون تدريجيا بسبب “فوز” الأطباء الهنود بمواقعهم في القطاع الصحي بسبب الحرص على الأرباح وعلى زيادة المداخيل، في حين أن الأطباء الأميركان (الشقر من الأصول الأوروبية) لا يميلون إلى العمل المثابر، ولا إلى حصد الرساميل الكبيرة على نحو دائم كما يفعل أقرانهم الهنود.
وقد كانت النتيجة النهائية تتلخص في أنك ترى الهنود في كل مكان على الإطلاق عبر أميركا وبلا مبالغة حتى العمال البسطاء من الحمالين والبائعين والنادلين أكثرهم الآن من الهنود، بل إنك لا يمكن أن تتابع أية فضائية أميركية إلا وتلمح رأس “جبل الجليد” الهندي الذي يطفو فوق السطح ليتوعد الباخرة الأميركية العملاقة بما لا تحمد عقباه إذا ما اصطدمت به. بل إن الهنود قد غزوا حتى قطاع صناعات السينما والفنون على أنواعها عبر الولايات المتحدة، إذ أخذ الممثلون والممثلات، من بين سواهم من الفنانين والتقنيين يظهرون وكأنهم يميلون إلى اسمرار البشرة والشعر الهندي الداكن، وكلما سألت من أسمائهم تتفاجأ بأنها هندية، حتى وإن كانت الأسماء الأولى قد “تأمركت”، ذلك أن أسماء العوائل (الأسماء الأخيرة) تبقى هندية غير قابلة للتلاعب (بالمناسبة يمكن للمرء أن يغير اسمه رسميا بواسطة دائرة الهجرة في الولايات المتحدة). كما ولم يتوانَ الهنود من دخول عالم السياسة والإدارة الحكومية، فتجد من بين حكام الولايات الأميركية الخمسين ومن بين أعضاء الكونجرس الكثير من الهنود، بل إن المرشحة لنيابة “جو بايدن”، المتسابق الرئاسي الديمقراطي إنما هي ابنة امرأة هندية مهاجرة! وقد أخذ الهنود مواقعهم في صفوف أغنى الأفراد، من أصحاب المليارات، هناك.
ومعنى ذلك كله هو أن الهند تمتص من أميركا أعظم الثروات المادية وأكبرها اعتمادا على تمكنها من بناء أنظمة تعليمية وتدريبية أكاديمية رفيعة، كافية لإقناع المختصين الأميركان ببقاء الهنود القادمين لأميركا هناك على سبيل سد الثغرات التخصصية واستثمار الكفاءات الفردية والجماعية.
لذا، لم أتوان (شخصيا) قط من أن أنوه، عبر كافة القنوات الإعلامية والرسمية، إلى أهمية برامج المعارف والتعليم العالي في العالم العربي، نظرا لأن هذه البرامج تشكل أفضل وأنجح استثمار عابر للقارات يمكن بواسطته غزو العالم بالعلم بالمؤهلات والكفاءات النادرة من مسقط وبيروت إلى الرباط والدار البيضاء!