برهنت تجارب الدول والشعوب على ان الاصلاحات لن تتحقق بالخطوات الانفرادية والاجراءات التجميلية، التي تكون عادة محاولة لإمتصاص وتجفيف واحتواء الغضب الشعبي على مظاهر إستهتار النخب الحاكمة، والى حد ما خيانة التزاماتها وبرامجها التي اغرت بها الناخبين للوصول الى السلطة، والتنكر لها لتنكب على توظيف مناصبها في الدولة وصلاحياتها السلطوية للاثراء الشخصي والعائلي والعشائري، من استغلال المناصب واللعب على اوراق الطائفة والمذهب والقومية والمناطقية. هذه هي حالة عراق اليوم، حيث فشلت الحكومات والأحزاب المتعاقبة على الحكم في التغلب على الأزمات التي تعصف، به ولم تبرر ثقة الجماهير بها.
ان الاصلاح الحقيقي لايتحقق بالنوايا والخطاب العسلي، وانما يتطلب وجود برامج مدروسة متكاملة تأخذ بمنظورها كافة جوانب اركان الدولة والمجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتستدعي وجود شخصيات مخلصة للنهاية شريفة للنهاية، تجعل من الاصلاح الفعلي عقيدة ومغزى وقضية حياة.
ولابد في هذا السياق من ادراك الأسباب الحقيقية التي ادت الى التدهور الحاصل والعوامل التي خلقت الاجواء الملائمة لميل الجميع: من الموظف المحلي الصغير الى رؤوس السلطة ” لهواية” ممارسة الفساد الحكومي وابتزاز المواطن الذي يلجأ للدولة لتمرير قضاياه المشروعة، وبدلا من الخدمات المجانية له فانه يُطالب بالدفع بممارسة الارتشاء للحصول عليها، وكذلك الاحتيال على الدولة في كل مناسبة وفرصة وخاصة حينما تناط بالموظف ( الموظفين ) مهمة تنفيذ مشاريع بقيمة مالية كبيرة. ان الروائح العتنة من فضائح الفساد في اروقة دولة العراق ما بعد مرحلة 2003 تصاعدت عاليا لتزكم الانوف ويضرب بها المثل السئ في العالم باسره، واعدمت ثقة المجتمع بالنخب التي حكمت العراق خلال هذه الفترة. الجميع متورطون بهذا الشكل او ذاك، وغدى خطابها الوطني والديني/ المذهبي يثير السخرية. وهذا ما عبرت عنه شعارات المتظاهرين في بغداد والمدن العراقية الاخرى في الفترة الاخيرة.
ان الدولة بحاجة الى ان تحسن سياسة محاربة الفساد وتصفية الأسباب والظروف التي تخلقه وإجثاث الاستخدام السئ للمناصب الحكومية وقطع الطريق علي الجرائم التي تركب وراء كواليسها، وضمان الالتزام ومراعاة معايير اخلاقيات الخدمة بالدولة وبالتالي خلق المناخ الملائم لتطوير اقتصاد البلاد.
وفي هذه الحالة من المفيد الاستئناس بتجارب الدول الاخرى في محاربة الفساد، ليس لنقل التجارب كوصفات جاهزة، وانما للتفكير فيها بشموليتها بالآليات التي اعتمدتها في تلك العملية الصعبة والشاقة للغاية، لأن خصمها لن ينام وسيظل يناور ويخاتل ويتلون كحرباء لإحتوائها وتسويفها وتفريغها من محتوها الحقيقي.
ان روسيا جابهت وتجابه كالعراق ظاهرة تفشي الفساد في الدولة. وهناك تقيمات بموسكو بان الفساد اصبح عاملا مهددا لأمن الدولة، لذلك غدت محاربته وقطع الطرق عليه احد الاولويات التي وضعها
الرئيس فلاديمير بوتين في الدورة الثانية لرئاسته. وسنتعدى الحقيقة اذا قلنا ان روسيا نجحت بتصفية الفساد من جذوره، ولكنها وضعت الأسس لملاحقته بصورة مستديمة وبوسائل متنوعة.وسنت القوانين التي تفرض على كبار المسؤولين نشر سنويا لوائح بمداخيلهم وممتلكاتهم، وينسحب ذلك على الازواج والزوجات والكشف عن ممتلكاتهم في الخارج ومنع افتتاح حسابات لهم في البنوك الاجنبية وايداع اموالهم فيها، كما سُنت القوانين التي تحاسب قضائيا متلقي الرشوة ودافعها ايضا، اضافة لذلك تم تشكيل مجلسا لمحاربة الفساد تابع للرئاسة…الخ.واطيحت في الفترة الأخيرة بالكثير من الرؤوس المتورطة بممارسة الفساد، كما انطلقت مؤسسات مدنية مستقلة في هذه العملية.
ويرى الرئيس بوتين ان مشكلة الفساد اعمق من ان تحل باستخدام وسائل التنكيل، وانها مشكلة الشفافية ورقابة الشعب على مؤسسات الدولة ومشكلة حوافز موظفي الدولة، وفي هذا صعوبات كبيرة. ويشير الى ان وظائف الدولة تمثل للكثيرين مصدرا للاثراء السريع. منوها بان التطهير على خلفية هذا الحافز سيكون من دون معنى، وموضحا: اذا ما تم النظر الوظيفة بالدولة ليس كخدمة وانما كمصدر للاثراء، فسيأتي مكان اللصوص الذين يتم فضحهم وعزلهم، لصوص جدد.
وحث بوتين على توسيع الرقابة الاجتماعية واستحداث المؤسسات المدنية لهذا الغرض، وان تصبح مكافحة الفساد قضية وطنية عامة وليس مادة للمضاربات السياسية ومنبرا للخطب الرنانة للدعاية الشخصية واستغلالها سياسيا، بالدعوات للتنكيل الجماعي. موضحا : ان التنكيل في زمن استشراء الفساد يمكن ايضا ان يتحول الى فساد، اكثر قساوة وفظاعة.
ويقضي برنامج بوتين بمحاربة الفساد بقرارات بنيوية واقعية. تتيح بفعالية اكبر القيام بالمعافاة اللازمة لمؤسسات الدولة وإدخال مبادئ جديدة في سياسة الكادر الوطني وفي نظام انتقاء الموظفين واعادة توظيفهم، ومنحهم المكافاءة والتوصل الى ان تكون العوائد المالية والمادية وغيرها من المجازفات من ممارسة الفساد الحكومي، غير نافعة.
* كاتب من العراق يقيم في العراق