أصدر مجلس القضاء الأعلى مؤخراً قراراً يمنع استخدام صفة (القاضي) لمن يتقاعد من القضاة . وقد أثار القرار نقاشاً قانونياً في الوسط القضائي ؛ وفي هذا النقاش بدا قطاع واسع من القضاة المتقاعدين غير مؤيد للقرار .
وسنحاول هنا تناول جوانب أساسية تتعلق به .
أولاً – مدى إلزام القرار للقضاة المتقاعدين :
تضمن القرار منع القضاة المتقاعدين من استخدام وصف القاضي ، وذهب إلى أن الوصف الصحيح لهم يقتضي استخدام عنوان (القاضي المتقاعد) عند التعريف بهم ، وأشار إلى خضوعهم للمسؤولية القانونية عند المخالفة ؛ وبذلك فإنه جاء بصيغة الإلزام .
وهنا ، ومع الإحترام للمجلس، نود أن نناقش مدى الإلزام في هذا القرار والأساس الذي يقوم عليه إطلاق صفة (القاضي) على من يتقاعد من القضاة .
المعروف أن مجلس القضاء الأعلى يستمد صلاحياته من قانون مجلس القضاء الأعلى ذي الرقم (٤٥) لسنة ٢٠١٧ الذي تضمنت المادة (٣) منه مهام المجلس المختلفة من الإشراف على الهيئات القضائية، وترشيح رئيس محكمة التمييز وقضاتها ، وترشيح المؤهلين للتعيين قضاةً ، وترقية القضاة، ونقلهم ، وانتدابهم ، وإعارة خدمتهم ، وإدارة شؤونهم الوظيفية وفقاً للقانون ، وتمديد خدمة القضاة وإحالتهم إلى التقاعد وفقاً للقانون ، وتشكيل الهيئات واللجان القضائية في المحاكم ، واقتراح مشاريع القوانين المتعلقة بشؤون السلطة القضائية ، وعقد الإتفاقيات القضائية ومتابعة تنفيذها ، وتأليف لجنة شؤون القضاة التي تختص بالمسؤولية الانضباطية للقضاة . وأجازت المادة (٤) من القانون للمجلس تخويل بعض مهامه لرئيسه .
وعند إمعان النظر في طبيعة هذه المهام نجد أنها جميعاً تنصرف إلى القضاة الذين ما زالوا في الخدمة ولا تنصرف إلى القضاة بعد تقاعدهم ، ومن ثم يكون صدور هذا القرار خارج مهام المجلس ، خاصة أن قراره ذاته يذهب إلى زوال صفة القاضي عن القاضي عند إحالته إلى التقاعد ، وبالتالي خروجه عن دائرة السلطة القضائية التي يختص المجلس بالإشراف عليها .
ثانياً- الأساس الذي يقوم عليه
استمرار استخدام عنوان (القاضي) بعد التقاعد :
يستند استخدام صفة (القاضي) إلى العرف الذي لم يقتصر على العراق فحسب وإنما جرى تداوله في دول كثيرة وشمل مناصب عديدة ولم يقتصر على المنصب القضائي، فقد شمل مناصب رسمية عليا ، واستقر وأصبح عرفاً معمولاً به منذ زمن طويل دون أن يثير اعتراضاً ( والعرف مصدر من مصادر القانون المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون المدني العراقي كما هو معلوم ، ويأتي عند التطبيق في المرتبة الثانية بعد النصوص التشريعية ) دون أن يثير اعتراضاً ؛ ولنضرب لذلك مثلاً فرنسا التي يستمر فيها إطلاق وصف رئيس الجمهورية على من يشغل هذا المنصب حتى بعد انتهاء ولايته ، فالرئيس ڤاليري جيسكار ديستان الذي شغل منصب رئيس الجمهورية خلال المدة (١٩٧٤-١٩٨١) ظلّ يُخاطَب بعنوان ( السيد الرئيس Monsieur Le Président ) أربعة عقود بعد خسارته في انتخابات العام ١٩٨١ أمام فرانسوا ميتران، واستمر ذلك حتى وفاته في العام ٢٠٢٠ ، انطلاقاً من تقليد يقوم على الإحترام لأنه رأس الدولة الفرنسية يوماً ما وخدم الشعب الفرنسي ؛ وفي مصر ثمة تقليد يقوم على استمرار إطلاق صفة ( المستشار ) وهي صفة تطلق على قضاة المحاكم المصرية العليا كمحاكم النقض،والإستئناف، والجنايات ويستمر إطلاقها عليهم بعد تقاعدهم دون اعتراض أو استغراب من أحد .
وفي هذا الإتجاه فإن ملازمة صفة (القاضي) لمن يتقاعد من القضاة تحمل على هذا المحمل .
وإذا ما قيل أن هذه الصفة قد تستخدم للإيهام بأن من يوصف بها مازال في منصبه فإننا نربأ بالقاضي، وهو رسول العدالة والحق، أن يميل إلى هذا الإستخدام، فضلاً عن أنه يقع في هذه الحالة تحت طائلة المسؤولية الجزائية لجريمة انتحال الصفة .
على أننا في هذا الصدد يجب أن لا نهمل حالات زوال الصفة عن القاضي لأسباب أخرى عدا التقاعد، تستحق منعه من استخدام صفة القاضي، وهي :
١- إنهاء خدمته بقرار من لجنة شؤون القضاة ( وهو قرار ذو طبيعة قضائية ويمكن الطعن فيه لدى محكمة التمييز )، وذلك لأن هذا الإنهاء يعني أنه لم يعد أهلاً لشرف حمل الصفة القضائية .
٢- الحكم عليه بجريمة عمدية تستلزم إنهاء خدمته ، لذات العلة المبينة في الفقرة السابقة .
٣- تعيينه بوظيفة أخرى خارج السلطة القضائية ، كأن يعيّن دبلوماسياً أو بمنصب وزاري ، لأن حمل الصفة القضائية يقتصر على من ينتسب إلى السلطة القضائية .
وبهدف حسن التنظيم، ولقطع دابر الخلاف في هذا الشأن، فإن من المناسب إقرار الأحكام المتعلقة به بموجب تشريع خاص .