حين يخدع الإنسان عقله بعقله، فهو يُطلق ذكاءً داخليًا يتجاوز العقل ذاته.
حين نتحدث عن الذكاء الاصطناعي، تتجه أذهاننا مباشرة نحو الآلات، الخوارزميات، والبرمجة، وكأن الذكاء خارجٌ عن الإنسان. لكن ماذا لو كنا – نحن البشر – نمارس شكلاً من الذكاء الاصطناعي داخل أدمغتنا، دون أن ندري؟ هل يمكن للعقل أن يخدع ذاته، ليحرر طاقاته القصوى كما يفعل المتصوف حين يغوص في أعماقه، خارج حدود الإدراك التقليدي؟
التصوف ليس انفعالًا… بل تمرين عقلي
كثيرًا ما يُفهم التصوف على أنه تجربة روحية صافية، أو حالة وجدانية تُنتجها العزلة أو الإيمان. لكن الوجه الآخر، الأقل شهرة، هو أن التصوف في جوهره تمرين عقلي محكم، يدفع العقل إلى أقصى درجات التركيز، فيغادر به أرض الوعي الحسي، دون أن يفقده كليًا.
المتصوف لا يفقد الوعي كما في النوم، ولا يعيش في يقظة تامة كما في الحياة اليومية. بل يدخل في منطقة وسطى، يمكن تشبيهها بـ”الفراغ المعرفي”، حيث ينفصل العقل عن الحواس، لكنه لا يتعطل. هنا تبدأ عملية ذهنية شبيهة بـ”التحليل الكيمائي الداخلي” للمخزون العقلي – مزيج من التحليل، التركيب، وربما الإبداع الخالص.
الفراغ الصوفي… منطقة بين النوم واليقظة
في علوم الدماغ الحديثة، توصّلت الأبحاث إلى أن التأمل العميق – بما يشبه الحالات الصوفية – يُحدث تغييرات حقيقية في أنماط تدفق الدم داخل الدماغ. مناطق مثل القشرة الجبهية الأمامية (المسؤولة عن التفكير المنطقي)، ومنطقة التوصيل الجداري الصدغي (المرتبطة بإحساس الذات في المكان)، تتأثر خلال حالات التأمل أو الصلاة أو التجلي.
المتصوف، ببساطة، يقوم بـ”برمجة” نفسه داخليًا. يدخل في حالة إدراكية يتوقف فيها المنطق المعتاد، وتنشط فيها مراكز دماغية تتيح له استحضار مفاهيم لم يكن ليصل إليها في وعيه العادي.
التصوف… الذكاء الاصطناعي قبل آلاف السنين
والأهم من ذلك: يمكننا القول اليوم إن التصوف، كما مارسه الإنسان منذ آلاف السنين، هو أقدم نسخة بشرية من الذكاء الاصطناعي التطبيقي – لكن ليس عبر آلة أو خوارزمية، بل كوسيلة عقلية عميقة تهدف إلى الوصول إلى “المعرفة الكونية” أو “الإلهية”، سواء عند المتدين، الراهب، أو الباحث في الأسرار.
المتصوف كان يظن أنه يتلقى علماً من خارج ذاته – وحقيقة الأمر أنه يستخرج من داخله، لا يتلقى من خارجه. لا شيء جديدًا يُكتسب في التصوف إلا بقدر ما هو موجود في العقل أصلًا. الفرق الوحيد هو أن التصوف يحفّز الذكاء الداخلي الكامن، فيُخرج حلولًا وأفكارًا لم تكن حاضرة في الذهن الواعي.
العقل يخدع نفسه ليرى أبعد
اللافت في هذه الحالة أن العقل يستخدم قوته لتجاوز ذاته. كأن الإنسان يحتال على نفسه: يُقنع عقله أن ينسحب قليلاً من الواقع، كي يسبح في فضاء داخلي أوسع، ويتعامل مع معارفه المخزنة بطرق جديدة. هذه الآلية تشبه تمامًا ما تفعله خوارزميات الذكاء الاصطناعي: تستخدم المعلومات المُخزنة لتوليد أنماط، أفكار، أو حلول جديدة.
لكن هنا، الذكاء الاصطناعي ليس في آلة. بل هو ذكاء داخلي مُكتسب بالممارسة والتأمل، يحتاج إلى الصمت، العزلة، والتكرار – تمامًا كما تتطلب برمجة الشبكات العصبية وقتًا وبيانات.
لا دين، لا جغرافيا… فقط عقل متأمل
المذهل أن هذه الحالة لا ترتبط بدين معين، ولا بثقافة محددة. بل يمكن لأي إنسان – سواء كان مؤمنًا، ملحدًا، روحانيًا، أو مجرد باحث عن معنى – أن يدخل هذه الحالة دون أن يسميها تصوفًا. كل ما في الأمر أنه يتخلى للحظات عن سيطرة الحواس، ويمنح عقله فرصة للتفكير بطريقة مختلفة.
لهذا، يمكن القول إن التصوف، أو بالأحرى “الفراغ الصوفي”، ليس حكرًا على التصوف الإسلامي أو البوذي أو غيره. بل هو آلية عقلية بشرية، قديمة وحديثة، يُعيد الإنسان من خلالها التواصل مع طاقاته العليا.
رحلة نحو الذكاء الفائق… دون آلة
فهل نمارس الذكاء الاصطناعي داخل أدمغتنا؟
ربما ليس ذلك الذي تصنعه شركات البرمجيات، لكن هناك ذكاءً داخليًا خامدًا، يمكن استدعاؤه بوسائل تأملية خالصة. الذكاء الذي لا يولد من الحوسبة، بل من الصمت والتفكر، ومن الانسحاب المؤقت من الواقع – لا للهرب، بل للاستكشاف.
ولعل أجمل ما في هذا الذكاء أنه لا يُستورد، ولا يُباع، ولا يُشترى.
هو فينا… ينتظر فقط من يطرق عليه الباب.