18 ديسمبر، 2024 7:43 م

هل مازالت الأرض تتكلّم العربية ؟

هل مازالت الأرض تتكلّم العربية ؟

أعجبني إجراء أقرّه إتحاد أدباء النجف، يقتضي بحرمان كلّ من يخطىء من أعضائه بالنحو من إرتقاء منصته، أو تمثيله في المهرجانات، بهدف  الحدّ من تفشّي الأخطاء اللغوية، ويأتي هذا الإجراء في سياق الحفاظ على سلامة اللغة العربيّة في مدينة النجف التي عُرف عنها اهتمامها باللغة، والأدب، وأنا أقرأ هذا الخبر ، قلت مع نفسي : يا حبّذا لو تحذو  بقيّة الإتحادات، والمؤسسات الثقافيّة حذو إتحاد أدباء النجف، فمن شأن هذا القرار أن يعيد للغة هيبتها ، وهو يذكّرني بما كان يفعله معلّمونا  في المرحلة الإبتدائيّة ، عندما كانوا يفرضون على التلاميذ الذين يخطأون في اللغة دفع “عشرة فلوس”، وهي قطعة نقديّة معدنيّة، توضع في حصّالة، ويجمع المبلغ ليكافأ التلميذ ذا اللسان الفصيح  ، من خلال شراء هديّة مناسبة تشجّعه على التفوّق في مادّة اللغة العربية .

 وإذا كانت المؤسسات، والمراكز الثقافية العربية، قد احتفلت يوم الخميس الماضي الموافق  الثامن عشر من ديسمبر باليوم العالمي للغة العربية الذي أقرته اليونسكو،  وهو اليوم الذي أقرّت فيه  الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1973 اعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية لها ، فإنّ هذه الإحتفالات يجب الّا تكون أداء واجب فقط، وخبرا تتناقله وكالات الأنباء، والصحف، ونشرات  الأخبار ، بل ينبغي تحويلها إلى  مناسبة لنتأمل الحال الذي عليه لغتنا العربية، لا سيّما ، ونحن نشهد  تراجع الإهتمام بها ، فتحوّلت المنابر، والصحف ، والمواقع الألكترونيّة إلى ساحات خصبة للأوبئة اللغوية ، المتمثّلة بالأخطاء النحويّة ، والإملائيّة ، وما إلى ذلك من كوارث ثقافيّة، تؤذي السامعين ممن ربّوا أسماعهم على النطق السليم ، والقواعد الصحيحة للغة القرآن، التي شرّفها الله تعالى بهذا الشرف ،فأنزل كتابه باللغة العربية ” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”  فحافظ عليها، وأضفى عليها هالة من قدسيته.

لا سيّما إن ّ العربية ، كما تشير الإحصاءات ،من أغزر اللغات ، من حيث المادة اللغوية، وإذا كان قاموس “صموئيل جونسون” في اللغة الإنجليزية ، على سبيل المثال ، يضم 42 ألف كلمة، فإن معجم “لسان العرب” لابن منظور يضم أكثر من 80 ألف مادة، ، ولهذا الثراء أسباب ، كما يؤكّد  الدكتور علي ثويني، فالعربية تراكمية ” منذ السومرية مرورا بالأكدية، والكنعانية، والبابلية ،والآرامية ، وكل تلك اللغات منتج لأقليم واحد ، فالأكدية الأم كانت لغة أهل الربع الخالي قبل الهزيع الأخير، ومازالت متواجدة في المهرية ، وهذا هو سبب الثراء الذي يغمرها، فهي وارثة لكل المنتج العقلي للبشرية، وأصبحت لتلك اللغة القدرة على الاختراق والمكوث في كل ثقافات الدنيا حتى في اسكندنافيا القاصية التي احتوت لغات أهلها على مفردات عربية”.

لكنّنا اليوم فقدنا الثقة بلغتنا ، كوننا أمّة مهزومة، على كافّة الأصعدة، وقد لاحظت أن الكثيرين يدارون جهلهم باللغة بهجرها، والتحدّث باللغة الإنجليزية، كنوع من الإستعراض الثقافي، وصار من المألوف أن نحضر حفلا ،ونسمع أخوة لنا في العروبة، والإسلام يتحدّثون باللغة الإنجليزيّة، رغم إنّ الجمهور عربي ، والمكان عربي، ” والأرض بتتكلم عربي” على حدّ قول سيد مكاوي، وهذا لا يحصل أبدا مع اللغات الأخرى، حتى إنّ الكثيرين صاروا يتحدّثون مع عاملات المنازل بالإنجليزيّة ، أو بعربيّة مكسّرة !!

وقد انتفض التشكيلي الأردني محمد العامري في حفل افتتاح معرضه الأخير،بمسقط ،  حين رأى إن لغة الحفل “انجليزية “، فألقى كلمة بالعربية،  من باب الاعتزاز بلغتنا، فصفّق الجمهور الذي 95% منه عرب أقحاح !! ، وقبل أيام حضرت حفلا أقيم بمؤسسة ثقافية حكومية كانت الكلمات، والتقارير كلّها باللغة الانجليزية، وفوق هذا صرنا نقف اليوم أمام سيل من الأخطاء ، وعدم الإهتمام ،من قبل الأفراد، والجماعات، ومن المؤسف، إن ّ هؤلاء  لا يجدون من يردعهم،  فتمادوا في غيّهم الثقافي، بدليل كثرة تلك الأخطاء، وكأنّ الجهل باللغة صار أمرا طبيعيّا، ولا يدعو للخجل!!

لذا علينا الإرتقاء بالمناهج التعليميّة ، وتبسيطها ، وتحبيب اللغة للنشء ، والحدّ من التكلّم باللغة العاميّة في دروس اللغة العربيّة في الفصول المدرسيّة ، والإرتقاء بصناعة الكتاب العربي ، وعرضه بأسعار مدعومة ، ليكون في متناول أيدي الجميع ، وبثّ برامج تلفزيونيّة تحبّب اللغة للجمهور العريض، كبرنامج “أحلى الكلام( مدينة القواعد)، وكما كانت تفعل مؤسسة الإنتاج العربي المشترك، من خلال إنتاج برامج تعليميّة ،و التأكيد أن تكون العربيّة لغة المعاملات الرسميّة، والإهتمام بترجمة العلوم الأجنبيّة إلى العربيّة، وما إلى ذلك من إجراءات تعيد للغتنا وهجها ، وليظل صوت سيد مكاوي يصدح  “الأرض بتتكلم عربي” .