23 ديسمبر، 2024 11:30 ص

هل عيدنا عيد؟!

هل عيدنا عيد؟!

أيام طفولتنا كان العيد سعيدا, زاهيا جميلا , نشتري فيه الملابس الجديدة , ونخرج في صباحاته وكأننا في مهرجان فرح وسعادة يغمر الوطن من أقصاه الى أقصاه.

فكنا نتزاور ونفرح بأيامه أيما فرح , ونحصل على العيدية من الأحبة والأقرباء , فنبتهج ويملؤنا سرور غامر.

كان العيد عيدا من المحبة والرحمة والأمل والنشاطات الأنسانية الجميلة الزاهية.

كنا نلعب مسرورين متمتعين بنشوة أيامه البهية , وننتقل بين الآماكن وشواهد التأريخ الأثرية , ونحن في غاية السعادة والحبور.

ولم يكن إلا قلة من أبناء مدينتنا يذهبون الى المقابر فيزورون موتاهم , ويقضون بعضا من يوم العيد الأول معهم, فما كنا نسمع عن الموت إلا بين حين وحين بعيد.

الموت كان حدثا جللا, تهب على صوته المدينة لتسيّع مَن مات , وما كانت المآذن تعلن عن الموت الا قليلا.

ومرّت الأيام وكبرنا معها, وجاءت السبعينيات , فأخذنا في بداياتها نشعر بالفرح والسعادة ونرى البشائر على الوجوه, وكان الشباب متحمسا, ومترعا بالطموحات والتطلعات , وجيلنا صار مندفعا للثقافة والعلم بقوة وإصرار , فنقرأ ونناقش وندرس وننهم من منابع الثقافة ونشتري الكتب , وتكونت عندنا آراء ومواقف, فأخذنا نضع كل حدث على طاولة النقاش والنظر الفكري الواعي.

فأصبحنا جيل وعي وإدراك واسع , ومعرفة في شتى دروب الحياة , نتباهى ببعضنا ونأنس بجلساتنا ونقاشاتنا التي تزيدنا وعيا على وعي , ونعيش أياما نرسم فيها أحلاما , ونسعى الى تطلعات سعيدة وحياة زاهرة , كالطيور المصدّحة الخفاقة الحالمة بإرتقاء الشَمَم.

وما أوشكت السبعينيات على نهاياتها حتى هبت عواصف هوجاء , فتسمرنا في حيرتنا لاندري كيف نفسرها , وصرنا ننظر اليها بريبة وخوف وقلق.

تغيرات دراماتيكية تراجيدية مرعبة , جعلت الجميع يشعر بأن الأيام العسيرة إستعدت ,  والمآسي والويلات ابتدأت.

فقال أكثرنا ما قال , ونظر وتفكر واستنتج بأننا سندخل بوابة الجحيم , لكننا ما كنا نعرف أي جحيم وسقر.

وحين غادرنا السبعينيات , بدأت الأشياء تتبدل والأحوال تتعثر , والتوجس يتوطن القلوب والخوف يعتمر المدن والحارات , والغيوم الكثيفة الداكنة تتجمع في أجواء البلاد.

وعشنا في حيرة مما سيجري وخوف مما سيعصف بنا, وراح المجهول يكشر عن أنيابه بوجهنا.

وما هي الا أسابيع أو شهور حتى بدأت الحرب مع إيران, ولم تخطر على بالنا نحن الصبية والشباب, وما كنا نعرف فحواها ولماذا قامت , وبأننا سنكون وقودها وضحاياها.

وما أن بدأت تلك الحرب حتى دار ناعور المآسي والويلات والأحزان , والكوارث والفواجع والملمات القاسيات.

واذا بالشوارع تتوشح باللافتات السوداء ,  وصار اللون الأسود يعم البلاد, وغدت الوجوه منزوعة من الفرح والسعادة , وغارقة في الأحزان والهموم والآلام.

وأخذنا نسمع على مدار الساعات المآذن تردد “كل مَن عليها فان, ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.

وغدى الموت حدثا يوميا, وكل الأمهات والآباء يكتمون أنفاسهم , ويرتعشون خوفا من أن يسمعوا نبأ وفاة عزيز عليهم.

وانتهت الحرب بعد ثمان سنواتٍ قاسياتٍ مؤلماتٍ موجعات مدمّرات , ووجدتنا نحدق بوجوه بعضنا ونطرح العديد من الأسئلة , ولا جواب يشفي واحدا منها , لكن الجواب العاصف كان في صباح يومٍ من أيام شهر آب , أخذ البلاد إلى هاوية المآسي الكبرى والتداعيات القصوى والصعاب , ووجدتنا ندور في ناعور ” ربّ يومٍ بكيت منه فلما…صرت في غيره بكيت عليه” , وهكذا دواليك , فالمصائب في أجيج وتأجج  , وصولات توحشٍ لا يتصورها خيال , وما خطرت على بال جيل من الأجيال.

وهكذا ترانا نعيش في زمن تأكلنا فيه النيران , وتمزقنا أساطين الفرقة والتناحر , حتى صار الدين نارا تنسجر فيها البلاد والعباد , والجميع يرفع رايات الخسران والضياع.

وفي هذا الخضم الشديد الدخان , يتبرأ العيد من ذاته وهويته , فندرك أننا قد قتلنا ألف عيدٍ وعيد , وفي أرجاء البلاد تُقرع طبول الوعيد , فهل سندّعي عندنا عيد ؟!!