جعفر بن أبي طالب, إبن عم الرسول الكريم , وشقيق الإمام علي بن أبي طالب.
رجل عربي تشرّب الإيمان في كل خلية بجسمه , وتحقق الوعي الإسلامي النقي في قلبه وروحه وعقله , وله هجرتان للحبشة والمدينة , وشهد معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة بين الروم والمسلمين , وكان أمير الجيش , وقتل فيها , عن عمر إحدى وأربعين , ويُكنى “جعفر الطيار”.
وبفعل قوة الإيمان الصادق , وفي هجرته الأولى , إستطاع أن يقف أمام ملك الحبشة ويقدم له الدين الإسلامي بكلمات دقيقة واضحة دالة , فيها من عمق الفكر والدراية , ما لا يتحقق عند الكثير من أدعياء الدين والناطقين بإسمه .
لقد وقف في عام 629 ميلادي , أمام النجاشي ملك الحبشة وهو يقول:
“أيّها الملك!
كنا قوما أهل جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيئ للجوار , ويأكل القوي فينا الضعيف.
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا, نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه.
فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد , نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان.
وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا.
وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار , والكف عن المحارم والدماء , ونهانا عن الفواحش وقول الزور , وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات.
فصدقناه وآمنا به وإتبعناه على ما جاء به من الله تعالى.
فعبدنا الله تعالى لا نشرك به شيئا , وحرمنا ما حرم الله علينا , وأحللنا ما أحل لنا , فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله.
وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا , خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك, ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك”.
تُرى مَن علّم الصحابي الجليل هذا الكلام, ومنحه الشجاعة والبلاغة والقدرة على المحاججة , والوقوف أمام ملك الحبشة والتكلم بثبات وثقة ومقدرة وإصرار؟!
إنها مدرسة الأنوار المحمدية , والقرآن البهية , ونفحات جبريل الإلهية, التي أترعته بطاقة الإيمان والوعي , والإدراك لجواهر العقيدة الإسلامية , وقيمتها ودورها في حياة البشرية.
فتمثلها وقال كلمات إخترقت جدران الزمن , وثبتت مثل الشمس في جبين الحياة.
وأشارككم بها بعد أن مضى عليها 1385 عاما , وستبقى ما بقيت الحياة لأنها قد عبّرت عن حقيقة الدين والذين جاء إليهم , وكيف اندفعوا بكل طاقاتهم الروحية والنفسية والعقلية نحو الإتجاه الجديد.
نعم , هذه الكلمات تؤكد إنقلابا حقيقيا تاما وشاملا وصادقا مُعبَّرا عنه بالفعل التأريخي , الذي رسّخ في أعماق الأجداد رؤية الحياة على مدى الوجود الأرضي , فكان صوتهم يخاطب المخلوقات الموجودة والقادمة , وطاقات الحياة في الأرض وقلبها , ولم يكونوا يخاطبون بشرا من حولهم ولا جيلا من بعدهم فحسب.
إن خطابهم وفعلهم كان يعني كل ما يدب وسيدب على وجه الأرض من بني آدم وحواء إلى قيام الساعة , وكأنهم يرونهم أفواجا أفواجا يمرون أمام عيونهم.
يا جدنا الصحابي الكريم بكل ألم وحسرة وقهر وحزن أقول ” لقد عدنا إليها!”
أنت تقول ” كنا قوما أهل جاهلية”
فهل عدنا لجاهليتنا, وبها نخوض غمار القرن الحادي والعشرين , بمنطق تدمير ما شيدتموه أنت وكل الصحابة الأخيار الأطهار , ليكون مشعلا منيرا للبشرية حتى الأبد.
وتقول: كنا “نعبد الأصنام” فانظر إلينا فنحن نأتي بما لا يخطر على بالك , وبال كل الصحابة الذين ساهموا في إرساء دعائم الدين , وحملوا رايته إلى الناس كافة , وأطلقوا طاقات الروح والعقل المنير.
وتقول: “ونأكل الميتة” ونحن نأكل بعضنا ونقتل بعضنا , ونستبيح دماءنا وأعراضنا , وما حرّمه نبينا , ونهدم بيوت الله وأماكن عبادته!
وتقول: “ونأتي الفواحش” وأنا أدعوك لتنظر , لأني لا أجرؤ على تعداد ما نأتيه منها , وفقا لمتطلبات هذا الرأي وذاك الاتجاه.
وتقول: ” ونقطع الأرحام” فتأمّل ماذا يجري من قطع للأرحام والتواصل والتآلف الأخوة الرحمة والإعتصام بحبل الله المتين.
وتقول: “نسيئ للجوار” ومن حولنا أدلة قاطعة على إساءتنا إلى جارنا , الذي نحسبه كما تريد أهواؤنا فنتبعها , وكأننا ننكر أخوّتنا بالدين , ونتصاغر في المذهبيات والطائفيات التي هي من طبع جاهليتنا.
وترانا يا سيدي جعفر نسعى إلى حرب داحس والغبراء وحرب البسوس , لأننا نريد أن نعود إلى ما كنا عليه قبل ديننا لنغير تأريخنا!
وتقول: “ويأكل القوي فينا الضعيف” وما عليك إلا بجولة في مجتمعاتنا لترى كيف يصول الأقوياء ويئن الضعفاء من الحياة وقهرها.
لقد عدنا إليها يا سيدي جعفر , فهل لك أن تأتينا بقول ينفع ؟!
ولا أريد أن أقول أكثر فقول سيدنا جعفر بن أبي طالب قول جامع مانع.
فلنتأمله بعقولنا وبصائرنا وننظر حالنا.
أللهم أخرجنا من جاهليتنا , ونوّر قلوبنا بالإيمان بعد أن هديتنا وأرشدتنا , وأرسلت إلينا نبيا من بيننا , يعلمنا آياتك ويفقهنا في دينك ويدعونا إلى الصراط المستقيم.
ها نحن يا ربنا قد اتخذناها عوجا وسلكناها هرجا مرجا.
إليك نلجأ وإليك ننيب , فخلصنا من هذه الجاهلية الحمقاء السوداء , التي ستعيدنا مئات السنين إلى ما قبل هبوط وحيك على سيد المرسلين وخاتم النبيين.
اللهم وَحّدْ كلمتنا , وأيقظنا من نومنا , وأخرجنا من غفلتنا وضلالتنا وكهوف أميتنا.
اللهم إليك نتوجه وبك نستعين , ولا منقذ من أوجاع الفواجع الطاحنات إلا بعونك وهدايتك , فاهدنا إلى ما هو خير لنا.
اللهم إرحمنا واغسل قلوبنا بنور وحدانيتك وجلال عظمتك يا رب العالمين.
أنت إلهنا والقرآن كتابنا ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا , لكننا من شدة أميتنا وجهلنا قد صرنا أشتاتا, فتفرقنا وتمذهبنا وتخندقنا ضد بعضنا البعض , ولسان حالنا يقول:
“أشهد أن لا إله إلا الله , وأشهد أن محمدا رسول الله”.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.