يظن الكثير من الناس أن شهر رمضان هو شهر الاستعداد لإبداع أشهى الأكلات وإعداد أكبر الولائم، وتحضير ألوان من العصائر والشراب، ولذا يُقابل قدوم هذا الشهر باستنفار عجيب غريب في البيع والشراء، وكأن أشهر السنة كلها بكفة، وشهر رمضان بكفة لوحده!!!
أحدهم ببساطة يعلق على ما يحصل اليوم عند قرب حلول الشهر الفضيل فقال: كيف يقولون عنه شهر الخير والبركة؟ أين الخير وهو يكلفنا مادياً أضعاف ما تكلفنا الأشهر الأخرى؟؟!!
هذا التعليق ينبغي أن ننظر له باهتمام كبير، ونكون صرحاء مع أنفسنا: إن هذا التعليق لا يخلو من صحة، ولم يكن صاحبه مخطئاً لأنه فهم الرسالة من الناس، ولم يفهم الرسالة من الله سبحانه، ومن وسائله التي فتحها للناس، والناس أعرضت عنها!!
فهو يرى بأم العين أن أسواق المسلمين ـ الذين ينبغي أن تكون أسواقهم مختلفة تماما في هذا الشهر الكريم ـ تستعر فيها الأسعار، ويزداد فيها الاحتكار لزيادة الطلب، والناس عامة يهرعون إلى التسوق كأن بهم حمّى، ويأخذون من المواد أضعاف ما يأخذونه في الأشهر الأخرى التي لا صيام فيها، مع أن العقل يقول: إن المسلمين في هذا الشهر ينبغي ان يحققوا فائضا مالياً وغذائياً يصل إلى الضعف؛ لأنهم سيمتنعون عن الطعام والشراب ما يقرب من الأربع عشرة ساعة في اليوم!!
الغريب أنهم سيصدمون عندما يجدون أن المسلمين في هذا الشهر يزداد إنفاقهم أضعاف مضاعفة، وكأن ساعات الصيام هي ساعات استفزاز لشهواتهم التي ما إن ينطلق صوت أذان المغرب حتى ترى الكثير منهم يندلق على الطعام والشراب اندلاقاً!! وبعدها ستجد أن عيادات الأطباء ستزدحم بالعابرين عليها يشتكون بلوى ما حلّ بهم من كثرة الأكل والشراب!!
لعل الله سبحانه سمّاه بـ(شهر رمضان) لأن الرّمضَ من دلالاته حرّ جوف الصائم من شدة العطش، ولذلك سميت الصحراء بـ(الرَّمضاء وهي الأرض التي حَمِيت من حرارة الشمس) فتخلو من الكلأ والماء، أي لا طعام ولا شراب فيها، والممنوع في نهار هذا الشهر الكريم هو الطعام والشراب المادي، وكذلك الطعام والشراب النفسي ليتوجه العبد إلى فهم الرسالة العظيمة من وراء ذلك، فالبدن إذا امتلأ توهم القوة بذاته، والنفس إذا امتلأت توهمت الغنى بذاتها، وتجويعهما معاً هو تذكير لهما بمصدر الغنى والقوة، فوجود الغنى والقوة في النفس والبدن سببه أنهما وعاءان مهيّئان لذلك، وليس لأنّ الغنى استحقاق للنفس أو القوة استحقاق للبدن.
إن هذا الشهر وُصِفَ بـ(الكريم)؛ ليعرفنا بالرب الكريم وبعظيم عطائه من جهة، ومن جهة أخرى يكشف عن أن حقيقتنا الفقر والضعف، ولذا علينا أن لا ننشغل بالغنى والقوة لننسى أنهما رسالة الغني القوي للتعريف به، وليس لنتقوى بقوته عليه فنفجر، أو لنتكبر بغناه عليه فنبطر!!!
شهر رمضان ينبغي أن يشعر به العباد جميعاً بلذة المساواة بين الغني والفقير، فكلاهما أكرمهما الله سبحانه بالجوع والعطش على حد سواء فلا تمايز بينهم في العطاء، نعم التمايز سيكون بالقبول والرضا بعطاء الله سبحانه وفهم الرسالة الإلهية من هذا الشهر الكريم حقا حقا.
إذن في هذا الشهر يفتح الله سبحانه لعباده خزائنه ويكرمهم بأعظم ما فيها وهو (الجوع) الذي يعرّفنا حقيقتنا، فالمرء إذا لم يعرف حقيقته (نفسه) لم يعرف ربه سبحانه، ويتوهم الغنى والقوة بالعطاء، ويقول كما قال قارون:
قال تعالى{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(القصص/76-83)