هل سنشهد مستقبلًا تكتلاتٍ سياسيةً تنفتح على الآخر؟

هل سنشهد مستقبلًا تكتلاتٍ سياسيةً تنفتح على الآخر؟

تطرح التكتلات السياسية في كل زمان ومكان سؤالا مركزيا عن طبيعة علاقتها بالآخر: هل هي منصات للتلاقي والتفاعل وتوسيع دائرة المشترك الإنساني، أم أنها جدران جديدة تشيد حول مصالح ضيقة لا ترى إلا ذاتها؟ إن التكتلات السياسية عادة ما تنشأ بدافع البحث عن قوة أكبر، سواء في مواجهة خصوم داخليين أو تحديات خارجية، لكنها ما إن تستقر على أرض الواقع حتى تواجه امتحانا عسيرا: امتحان الانفتاح على المختلف.
الانفتاح على الآخر ليس مجرد شعار أخلاقي أو دعوة مثالية، بل هو شرط لدوام أي تكتل سياسي. فالتكتلات التي تنغلق على نفسها سرعان ما تتحول إلى دوائر مغلقة تكرر خطابها وتعيد إنتاج ذاتها دون أي تجديد. ومع غياب التجديد تفقد القدرة على استيعاب التحولات الاجتماعية والثقافية، فتبدأ في التآكل من الداخل. أما التكتلات التي تمتلك شجاعة الإصغاء للآخرين، وتقبل الحوار معهم حتى وإن كان مؤلما، فإنها تكتسب مرونة وقدرة على التكيف تجعلها أكثر استمرارية وأقرب إلى نبض المجتمع.
لكن الانفتاح السياسي على الآخر ليس بالأمر السهل، إذ تتداخل فيه عناصر الأيديولوجيا والهوية والمصالح. فكل تكتل يسعى أولا إلى تثبيت هويته وحماية جماعته، وهو أمر مشروع بحد ذاته، إلا أن الخطر يكمن حين تتحول الهوية إلى جدار عازل. هنا يصبح الآخر تهديدا لا فرصة، ويغدو الحوار نوعا من التنازل غير المقبول. وبهذا المعنى، كلما ازداد الانغلاق، ازداد التوجس من المختلف، في حين أن التجربة التاريخية تشير إلى أن أكبر الإنجازات السياسية والنهضات الاجتماعية جاءت من التفاعل بين قوى متباينة لم تتردد في بناء أرضية مشتركة.
المعضلة إذن تكمن في التوازن: كيف يحافظ التكتل السياسي على خصوصيته ورؤيته دون أن يقع في فخ العزلة؟ الجواب قد يكون في تبني مفهوم “المساحات الرمادية”، أي المساحات التي تسمح بالتلاقي على الحد الأدنى من القيم والمصالح المشتركة، مع الإبقاء على حق الاختلاف. فالانفتاح لا يعني الذوبان، بل يعني الاعتراف بوجود آخر يملك الحق ذاته في الوجود والتعبير.
كما إن قدرة التكتلات السياسية على الانفتاح على الآخر هي معيار حقيقي لمدى نضجها. فهي إما أن تكون قوة إضافية في مسار التعددية والديمقراطية، وإما أن تتحول إلى جزر معزولة تستهلك نفسها حتى تفقد قيمتها. والتاريخ يعلمنا أن كل انغلاق مآله الاضمحلال، فيما كل انفتاح مدروس يحمل بذور البقاء والتجدد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات