في اخر تسجيل صوتي لتنظيم داعش الارهابي، تداولته عدد من مواقع التواصل الاجتماعي، مساء يوم الثلاثاء الماضي، دعا عناصره الى شن هجمات في جميع انحاء العالم، لاثبات وجوده وقوته وتأثيره.
وقد جاءت تلك الدعوة متزامنة مع الهزائم الكبيرة التي مني بها التنظيم الارهابي في منطقة الباغوز السورية القريبة من الحدود مع العراق، على ايدي قوات سوريا الديمقراطية(قسد).
ولاشك ان مثل تلك الدعوات “التحفيزية”، غالبا ما تطلقها انظمة او حكومات او زعامات او منظمات، حينما تشعر ان نهايتها باتت وشيكة جدا، كما حصل مع رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، وكما حصل مع الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، واخرين غيرهم.
ولانها تكون قد وصلت الى النتيجة الحتمية، ولم يعد بأمكانها سوى القبول والاقرار بتلك الحقيقة، فأنها تعمد الى خلط الاوراق بأقصى قدر ممكن، وهذا بالضبط ما يحاول تنظيم داعش الارهابي فعله الان.
عراقيا، لايمكن النظر الى التطورات والمستجدات الاخيرة في المشهد السوري، بأهتمام قليل، لان التداخل والتشابك مع المشهد العراقي كبير جدا، لاسيما فيما يتعلق بالملف الامني، والحرب ضد داعش، اذ ان الاخير استهدف كلا من سوريا والعراق وفق اجندة واحدة، وتحقيق اي انتصار عليه في احدهما من الطبيعي جدا ان ينعكس ايجابيا على الاخر، والعكس صحيح.
والضربة القاصمة الاخيرة التي تعرض لها داعش في بلدة الباغوز، كانت حصيلة جهود متواصلة من الطرفين.
ومعروف ان القوات العراقية نفذت طيلة العام الماضي وبداية هذا العام، العديد من العمليات العسكرية والضربات الجوية ضد مواقع وتجمعات واوكار داعش في العمق السوري، بالتنسيق مع الحكومة السورية.
وفي هذا السياق، نقلت وسائل اعلام عراقية عن مصدر عسكري، قوله “ان مدفعية الجيش العراقي قصفت مساء الثلاثاء، قرية الباغوز في محافظة دير الزور شرق سوريا، القريبة من الحدود العراقية، وهي آخر جيب لعصابات داعش الارهابية في الدولة المجاورة، بعد ان رصدت القوات العراقية تحركاتهم هناك بواسطة الكاميرات الحرارية”.
وقد ساهم الجهد العسكري العراقي، في تسريع عملية محاصرة واضعاف داعش في سوريا، كخطوة اولى لانهاء وجوده بالكامل، هذا من جانب، ومن جانب اخر، قطع الطريق على فلول التنظيم المنهزمة هناك، ومنعها من التوجه نحو الاراضي العراقية.
ولعل التصريح الاخير لنائب قائد عمليات الانبار في الحشد الشعبي، أحمد نصر الله، يؤكد ذلك، اذ اشار الى انه “بعد تقدم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) باتجاه الحدود العراقية السورية ومعاركها المستمرة مع داعش في باغوز شرق سوريا، وهي آخر جيب للارهابيين في سوريا، اخذت قوات الحشد الشعبي والجيش العراقي والشرطة الاتحادية وكذلك الاسلحة الساندة وذات الكفاءة العالية والدقيقة المتناهية، كافة الاستعدادات والاجراءات لمنع وصول الدواعش وتقربهم للحدود العراقية ورصد تجمعاتهم وتحركاتهم في هذه المنطقة”.
ويبدو ان المعارك الاخيرة، تمثل نقطة تحول حاسمة في منحى الصراع مع تنظيم داعش الارهابي، ففي حال نجح الاخير بالتماسك والمقاومة، فأنه ربما سيتمكن من اعادة تنظيم صفوفه في بعض الجيوب في الاراضي السورية والعراقية، مستفيدا من دعم واسناد قد توفره له الولايات المتحدة الاميركية، بيد ان هزيمته الكاسحة، ستعني انها بداية النهاية له، او بتعبير اخر النهاية الحقيقية، على اعتبار ان وجود داعش في الجيب الاخير المتمثل ببلدة الباغوز، جعله يرزح بين فكي كماشة يصعب الى حد كبير التخلص والانعتاق منها، فلا هو يستطيع الهروب غربا ولا التوجه شرقا، ولا البقاء في مواضعه الحالية، في ظل انكسار معنوي ونفسي واضح وملموس جدا، عبرت عنه عمليات الهروب الواسعة، الى جانب مقتل اعداد كبيرة من عناصره، ووقوع اعداد اخرى في قبضة الجيش السوري، وقوات (قسد).
ويرى خبراء امنيون، ان استعادة بلدة الباغوز تعد علامة فارقة في الحملة المدمرة التي دامت أربع اعوام سنوات لهزيمة ما سميت “دولة الخلافة” التي استطاعت السيطرة على مساحة شاسعة تمتد بين سوريا والعراق خلال الأعوام الماضية قبل أن تنحسر تلك المساحة إلى أقل من سبعمائة كيلو متر الان.
ومايؤكد ويزيد من حالة الانكسار المعنوي والنفسي، هو اقرار واعتراف التنظيم بهزيمته، الذي جاء على لسان القيادي في التنظيم المدعو أبو عبد العظيم، حينما قال “إذا كان لدينا آلاف الكيلومترات ولم يتبق لنا سوى بضعة كيلومترات، وقيل أننا خسرنا -لكن ذلك ليس إلا مقياساً دنيويا، وان النصر والثبات هو الاستمرار في فعل ما يحبه الله”!.
وفي واقع الامر لايقل حجم واهمية الانتصار العسكري الاخير على داعش في سوريا عن الانتصار الكبير الذي حققته القوات العراقية في خريف عام 2017، المتمثل بتحرير محافظة نينوى من ذلك التنظيم الارهابي، ليعلن بعد ذلك الانتصار الشامل والكامل عليه.
بيد ان ما ينبغي التأكيد عليه، هو ان تطهير كل جيوب وملاذات الارهابيين، ووضع اليد على قواعدهم، وقطع خطوط امداداتهم اللوجيستية، يتطلب المزيد من الوقت والتنسيق ذي الطابع الاستخباري، والتنبه لتحركات واشنطن، التي ربما لاتتمثل اجندتها بالقضاء على داعش بصورة نهائية، بل اعادة بناء وتنظيم جزء منه بمسمى وعنوان اخر، وكما يشير الباحث السوري المتخصص في الجماعات الارهابية والتنظيمات المسلحة حسام شعيب، الى “أن الاستراتيجية الأمريكية لا تريد إنهاء داعش من المنطقة، لأن ذلك يعني أن الولايات المتحدة لم يعد لها أي أوراق ضغط سواء أمنية أو سياسية وعسكرية لاستخدامها ذريعة أو حجة للبقاء على أراضي الدولة السورية أو حتى في العراق”.
في ذات الوقت، فأن الانتصار العسكري، يعد جزءا من الحرب الشاملة على الارهاب، فهناك البعد الفكري العقائدي المنحرف، الذي يحمله اتباع المقاتلين الدواعش ومتعلقيهم من عوائلهم واقربائهم والمتعاطفين معهم، وهم بالالاف، ناهيك عن الخلفيات الاجتماعية المختلفة التي ينحدر منها هؤلاء، والتي تلتقي وتجتمع في بوتقة واحدة.
اضف الى ذلك، فأن التسجيل الصوتي القصير المشار اليه في اول السطور، وان كان يعكس القدر الكبير من الاحباط واليأس في صفوف داعش-قيادات وقواعد، الا انه يؤشر الى ان التنظيم الذي يمتلك وجودات وخلايا وملاذات في مناطق مختلفة من العالم-كبعض دول أفريقيا واسيا وحتى اوربا-يمكن ان يفعل شيئا هنا او هناك، مثلما حدث في مرات عديدة خلال الاعوام الخمسة او الستة الماضية.