18 ديسمبر، 2024 9:47 م

هل خلَّف الجاهليون لنا ما يستحق الاستذكار؟

هل خلَّف الجاهليون لنا ما يستحق الاستذكار؟

كيف يمكن أن نظفر بالصواب دون أن ننقيه من الخطأ وبما يحيط ويعلق به من أوهام وتخيلات ما أنزل الله بها من سلطان. والحق، فإن هذه المقالة ترنو إلى تصويب الخطأ الشائع بين نشئتنا وشبيبتنا، خصوصًا هؤلاء الذين يعتقدون بأن عنوان: “العصر الجاهلي” إنما يعكس الجهل (معاكسًا للعلم أو للمعرفة) في تلك الحقبة، بينما أن الحقيقة الساطعة تقول إن العرب لم يكونوا يعانون من الجهل (بمعناه المعرفي المبسط أعلاه)، ذلك أن “الجاهلية” هو عنوان أطلق على غياب سمة “الحلم” والتعقل وشيوع الانجراف بالعصبيات العمياء، وهي من الصفات الشائعة في عصر تالٍ بين قبائل عرب الجزيرة، بدليل تشرذمهم وحروبهم الدموية وشيوع الغزو، ناهيك عن حقيقة مفادها أن حربًا واحدة طالت عشرات السنين من أجل “بسوس”، وهي ناقة شربت من دماء قبائل العرب الكثير، حتى وضعت الحرب أوزارها.
أما دواعي استذكار هذه الحقائق المهمة عن عرب الجزيرة، فهو الإشارة والإشادة بطبيعة معارفهم وسجاياهم، مع ذكر خاص لــ”ديوان العرب”، وأقصد الشعر، بطبيعة الحال.
وإذا كان شعر العصر الجاهلي (أو شعر مرحلة ما قبل الإسلام) قد أثرى وأرَّخ التجربة الاجتماعية العربية بمئات الأمثال والحكم التي لا يستغنى عنها حتى اللحظة، فإن من واجبات الباحث الجاد في الحضارة العربية (أي جنوب الفراتين وبلاد الشام) أن يرصد ويحلل ما جادت به قرائح العرب من أمثال وحكم عبر القصيدة الجاهلية أو عبر الخطبة النثرية (مثل خطبة قس بن ساعدة).
وقد أثرت تلك العبارات والجمل التي راحت تطلق ولا تقاس أو تقيس، على ثقافتنا العربية مذاك حتى يومنا هذا. والحق، فإني عندما حاولت أن أستذكر المرات التي استعملت بها حكمًا وأمثالًا كانت قد أطلقت في العصر الجاهلي، حضرت ذاكرتي العشرات منها. وعندما قررت تفحص هذه العشرات من قدحات العبقرية الجماعية بدقة على سبيل كنه سر وجودها وتواصلها العابر للحقب، تأكدت لي كونية دلالاتها.
وأعتقد بأن واحدة من أهم سمات الأمثال والحكم القديمة إنما كمن في هذه الكونية، بمعنى أنها تصلح لكل زمان ومكان، بدليل أن تخصصي في الأدب الإنجليزي قد عاونني على استمكان عدد كبير من المقولات الإنجليزية التي تعكس ذات دلالات الحكم والأمثال العربية القديمة. بل إن ما أقدم عليه “الأستاذ طاهر البياتي” من ترجمة أو تعريب للأمثال والمقولات الشائعة بالإنجليزية إلى مكافئاتها العربية، يدل على كونية كنوز الحكمة ومعتصرات التجربة عبر الأزمان والثقافات.
وإذا كنت، شخصيًّا، قد وظَّفت واحدًا من أمثال العصر الجاهلي عنوانًا لإحدى مقالاتي المنشورة في (الوطن) الغراء قبل سنين، فإن هذا المثل، وهو (على نفسها جنت براقش) إنما يدل على هذه الكونية المعتصرة من روح التجرية العربية الثرة. ومما لم يزل عالقًا في الثقافة الشائعة وفي الذاكرة حتى يومنا هذا نرتجع إلى: “رب أخ لم تلده لك أمك”؛ و”القول ما قالت حذام”؛ و”وافق شن طبقة”؛ و”تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”؛ و”مكره أخاك لا بطل”؛ و”عاد بخفي حنين”؛ و”إياك أعني واسمعي يا جارة”؛ من بين العشرات من أقوال الحكمة العربية التي لم تنقرض أو تتآكل، محافظة على قيمة التجربة المكثفة والمركزة المكنونة بدواخلها!