23 ديسمبر، 2024 12:51 ص

هل تصدر روسيا الجوع ؟

هل تصدر روسيا الجوع ؟

يدور الحديث هذه الأيام في الاعلام الغربي ولدى المسئولين الغربيين ، عن الجوع الذي تصدره روسيا للعالم ، خصوصا بعد ان أوقفت العمل باتفاق إسطنبول 2022 ، ومحاولة الدول الغربية، وتحت ذريعة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إلقاء اللوم على روسيا في أزمة الغذاء العالمية ، و هنا يكمن التناقض ، فقد  أصبح الغذاء باهظ الثمن ولا يمكن الوصول إليه في بداية الوباء ،  وبدأوا في إنتاج كميات أقل منه، ونشأت صعوبات في الإمدادات، لذلك بدأت الدول الأكثر ثراءً، على سبيل المثال الولايات المتحدة، في الشراء بأسعار باهظة، وطبعت تريليونات الدولارات مقابل ذلك. 

  ومعلوم  ان القمح يعد الغذاء الأساسي ، لأكثر من ثلث سكان العالم، لكن أسعاره ارتفعت بنسبة 60% منذ بداية العام ، ووفقا للتوقعات، قد ترتفع تكلفة طن القمح في المستقبل من 430 دولارا حاليا إلى 700 دولار، وفي الواقع، لم يؤثر ارتفاع الأسعار على القمح فحسب، بل على المنتجات الغذائية الأخرى أيضا ، ومع بداية شهر مايو من هذا العام ، ارتفع مؤشر أسعار الغذاء العالمية بنسبة 41% مقارنة ببداية العام الماضي، وارتفعت تكلفة الذرة بنسبة 54% ، ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، قد تواجه البشرية “أكبر أزمة غذائية منذ الحرب العالمية الثانية” ، وسيرتفع عدد الجياع في العالم ، ونتيجة لذلك، فإن مئات الملايين من الناس معرضون لخطر المجاعة ، ويتزايد نقص الغذاء في بعض المناطق بمعدل 40-50%.

    وبصرف النظر عن تأثيرات الظروف المناخية الطبيعية، فإن السبب الرئيسي هو التحكم الاصطناعي ، فقد  كانت الشبكة العالمية لتجارة الحبوب الدولية ، دائمًا في أيدي أكبر أربعة تجار زراعيين ، ويرتبط الارتفاع السريع في أسعار الحبوب العالمية ،  ارتباطًا وثيقًا بالتلاعبات التي تقوم بها هذه الشركات ،  ولا يمكن حل التقلبات الحادة في أسعار الغذاء العالمية ومشاكل الإمدادات إلا من خلال الآلية الحالية ،  والسبب الرئيسي هو أنه لم يكن هناك حافز يذكر على مدى سنوات عديدة لدى اللاعبين المهيمنين العلنيين أو السريين في سوق الغذاء العالمية لمعالجة المشكلة ، (شركات التجارة الزراعية “الأربع الكبرى” – آرتشر دانييلز ميدلاند، وبونج، وكارجيل، ولويس دريفوس –) يشار إليها مجتمعة في كثير من الأحيان باسم ABCD  InoSMI) ) والشركات التي تقف وراءها هي المستفيدين الرئيسيين)  ، وبشكل خاص، أصبح بوسعهم الآن احتكار صوت العالم من خلال تقديم معلومات كاذبة وتحويل اللوم ،  ولحل هذه المشكلة في المستقبل، يحتاج العالم إلى آلية بديلة جديدة، تتشكل على أساس توحيد الغالبية العظمى من دول العالم، وليس لعبة المحصلة الصفرية للولايات المتحدة وحلفائها، كما يحدث الآن ، والتعاون وحده هو الذي سيساعد في حل المشاكل العالمية.

   إن الفجوة بين روسيا والغرب آخذة في الاتساع، لكن موسكو تعمل على زيادة التعاون في أجزاء أخرى من العالم، وأصبح هناك اتجاه مختلف تمامًا ، فقد زادت موسكو من نفوذها في العديد من البلدان المهمة، بما في ذلك تلك التي لها أهمية كبيرة بالنسبة لواشنطن ،واستغلت هذه الدول بدورها الانقسامات العالمية الجديدة لتعزيز سلطتها الإقليمية والدولية ، كذلك حولت روسيا الماضي السوفييتي ، إلى أداة فعالة لتحقيق أهدافها السياسية الحالية ، وفي علاقاتها مع الهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا، تعتمد روسيا على الدعم التاريخي الذي يقدمه الاتحاد السوفييتي للحركات المناهضة للاستعمار، ويضع الوزير لافروف روسيا في صف الدول التي تعارض “محاولات الغرب لتزوير التاريخ ومحو ذكرى الجرائم الفظيعة التي ارتكبها المستعمرون، بما في ذلك الإبادة الجماعية”.

   الولايات المتحدة الامريكية تتهم روسيا بابتزاز العالم في أزمة الحبوب، بدلاً من المساعدة في حل أزمة الغذاء العالمية ، ويؤكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “لا يسمح بإمدادات الغذاء” ويحاول جعل العالم يوافق على مطالبه ويرفع العقوبات ، وبعبارة أخرى، بكل بساطة، هذا ابتزاز” ، والاشارة الى إن أوكرانيا الآن غير قادرة على نقل الحبوب “بسبب الحصار البحري الروسي” ، وبحسب تقديره فإن «هناك ملايين الاطنان من القمح محتجزة في منشآت التخزين قرب أوديسا وعلى متن السفن العالقة في ميناء أوديسا بسبب هذا الحصار الروسي».

  كما تواصل الولايات المتحدة صب الزيت على الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وتزيد العقوبات ضد موسكو ، بالإضافة إلى ذلك، اتخذت أمريكا تدابير داخلية، واستولت على حصة روسيا في سوق الغذاء العالمي ، ويقال إن الرئيس الأمريكي جو بايدن زاد عدد المقاطعات المؤهلة للتأمين المزدوج على المحاصيل على مستوى البلاد من 681 إلى 1935، كما رفع استثمارات الحكومة الفيدرالية في إنتاج الأسمدة المحلية من 250 مليون دولار إلى 500 مليون دولار، مما عزز الصادرات الزراعية الأمريكية ، وزيادة الاعتماد الخارجي على الغذاء الأمريكي ،ويبدو أن النية الحقيقية للولايات المتحدة هي بسط هيمنتها على مجال الأمن الغذائي.

    كذلك اتهامات رئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID) ) ، سامانثا باور، التي اتهمت روسيا في برنامج تلفزيوني أمريكي PBS NewsHour باستفزاز أزمة الغذاء العالمية ، ووصفت سبب «القفزة الهائلة في أسعار المواد الغذائية» في العالم بأنها جراء عملية عسكرية روسية خاصة في أوكرانيا ، وهذا الحصار المتعمد بالكامل حول تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية ، وردا على سؤال أحد الصحفيين عما إذا كانت تدرك أن العقوبات الأمريكية المفروضة على شركات النقل التي تصدر الحبوب الروسية ، قالت “كل ما هو مطلوب هو ضمانات السلامة لجميع السفن الجارية، وبعد ذلك ستنعكس ضمانات السلامة هذه في أسعار التأمين” ، فضلاً عن قيود أخرى مماثلة، «ساهمت في ارتفاع أسعار الغذاء العالمية».

    وكل ما تقدم من اتهامات فندتها روسيا عندما أعربت موسكو عن استعدادها لتقديم 50 مليون طن من الحبوب للمساعدة في التغلب على أزمة الغذاء، فقد أتهمتها الولايات المتحدة وأوروبا بـ “الابتزاز” ، حيث طالبت روسيا برفع العقوبات ،  ووفقا لمتحدث باسم البنتاغون، فإن روسيا “تستخدم الغذاء كسلاح” ، وفي الواقع، يعد تحويل الغذاء إلى “أسلحة” ممارسة شائعة في الولايات المتحدة ، ولأن أمريكا استخدمت الغذاء مراراً وتكراراً “كسلاح” فقد أصبح الغذاء نقطة ضعف في التجارة العالمية.

    تصريحات المسئولين الروس وعلى كافة المستويات ترفض الاتهامات الغربية عموما والأمريكية بشكل خاص ، مسئوليتها عن الازمة العالمية في الحبوب ، ويؤكدون أن أزمة الغذاء العالمية لم تنشأ بسبب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وكما يروج له الغرب ، بل هي بسبب تصرفات الدول الغربية، ويؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ان هذه الازمة قد نشأت نتيجة أن الدول الغربية، سواء الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، بدأت في الانخراط في انبعاثات غير مبررة وغير مبررة اقتصاديا من أجل حل مشاكلها المرتبطة بوباء فيروس كورونا.

  إن الوضع الحالي المتمثل في نقص المنتجات الزراعية في العالم قد تطور من وجهة النظر الروسية ، بسبب عدد من العوامل ، وعلى وجه الخصوص، بسبب عواقب الوباء، والاضطرابات في سلاسل التوريد، والتضخم، والتوسع الحضري المتسارع، وإرهاق التربة المتراكم، وكذلك تغير المناخ ، ومع ذلك، فإن مكانًا خاصًا في هذه القائمة تحتله مجموعة من العقوبات غير القانونية المناهضة لروسيا ، ويركز الجانب الروسي أيضًا على حقيقة أن العقوبات المفروضة في مجالي النقل والمجال المالي ، هي التي تزيد من تفاقم الوضع الصعب الذي تطور في أسواق الغذاء العالمية.

   وبدافع من الاحتياجات الاستراتيجية، تعمل الولايات المتحدة وأوروباوفقا للمسئولين الروس ، على تحويل المسؤولية عن أزمة الغذاء العالمية إلى روسيا ، وتمارس الضغوط عليها بطرق مختلفة ، لكن فلاديمير بوتين،  نفى ذلك ، وقال إن اتهامات روسيا بوجود صعوبات في توريد المنتجات الزراعية لا أساس لها من الصحة” ، معللا في الوقت نفسه ان الأزمة الحالية ، ناجمة عن العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو، فقد كانت القيود المناهضة لروسيا هي التي أدت إلى تفاقم الوضع ،ويعود ذلك في الواقع إلى تعطل سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية بسبب العقوبات الاقتصادية الشاملة، مما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية ، وفي الوقت الحاضر، لم تقترح أمريكا وحلفاؤها بعد حلولاً حقيقية للمشكلة ، ولكنها تواصل تصعيد الصراع من خلال تزويد أوكرانيا بالمزيد والمزيد من الأسلحة والمعدات الجديدة، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى زيادة خطر الأمن الغذائي العالمي في المستقبل.

  وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بدوره ، يؤكد إن التكهنات التي تروج لها الدعاية من الدول الغربية وأوكرانيا بأن روسيا “تصدر الجوع” ليس لها أساس من الصحة ، ووفقا له، فإن مثل هذه التصريحات في الغرب تحاول مرة أخرى “تحويل المسؤولية من رأس مريض إلى رأس سليم” ، وأشار الوزير إلى أنه خلال أصعب أوقات جائحة فيروس كورونا، قام الغرب الجماعي، باستخدام آلية انبعاث العملة، بسحب تدفقات السلع والغذاء، مما أدى إلى تفاقم الوضع في البلدان النامية التي تعتمد على الواردات الغذائية  ، وذلك عندما بدأت الأزمة في سوق المواد الغذائية بالتشكل.

    والأمر الأسوأ من ذلك هو أن العقوبات غير المدروسة ضد الغاز والأسمدة الروسية ، أدت إلى ارتفاع الأسعار في العالم وزيادة التقسيم الطبقي ، واستمر الأغنياء في شراء ما يزيد على حاجتهم  ، وخلال الوباء، زاد عدد الجياع في العالم بمقدار الثلث ، وبمجرد أن أصبح من الواضح أن أسمدة لن تكون متاحة في السوق العالمية، ارتفعت أسعار الأسمدة والأغذية على حد سواء على الفور ، لأنه إذا لم تكن هناك أسمدة، فلن يكون هناك الحجم المطلوب من المنتجات الزراعية المنتجة ،  وروسيا ليس لها علاقة بالأمر على الإطلاق ، فقد  ارتكب الغرب نفسهم الكثير من الأخطاء، “وهم الآن يبحثون عن شخص يلومونه عليه».

 وتصف موسكو محاولات الولايات المتحدة إلقاء اللوم على روسيا في أزمة الغذاء بأنها ”  سخيفة ”  وهكذا، ردت على اتهاما، سامانثا باور، التي وصفت سبب «القفزة الهائلة في أسعار المواد الغذائية» في العالم بأنها عملية عسكرية روسية خاصة في أوكرانيا ، وإن تصريحات الجانب الأمريكي غير مهنية، وتخلو من التحليل والفهم الصحيح للوضع، “أو بالأحرى الرغبة في فهم جوهر المشكلة” ،  وإن الولايات المتحدة تلوم روسيا بلا أساس على هذا الوضع من أجل المزيد من شيطنتها.

     الاستنتاج الأخير هو إن واشنطن تتعمد تضخيم مشكلة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود بشكل مصطنع من أجل “إخفاء دورها الكارثي في أزمة الغذاء” ، وإن الغرب يحاول “تحويل” المسؤولية عن المشاكل في سوق الغذاء العالمية إلى روسيا، ولكن أوكرانيا لديها العديد من قنوات نقل الغذاء للاختيار من بينها، وروسيا لن تتدخل في الإمدادات الغذائية ، بالإضافة إلى ذلك، وأن صادرات القمح الروسي سترتفع إلى 50 مليون طن في العام الزراعي المقبل.