18 ديسمبر، 2024 8:02 م

هل تركيا عازمة على إنشاء منطقة عازلة في شمالي العراق؟؟

هل تركيا عازمة على إنشاء منطقة عازلة في شمالي العراق؟؟

نمهيد
إستطاعت الدبلوماسية التركية يوم 14 آذار الجاري إقناع حكومة العراق الإتحادية حظر حزب العمال الكردستاني (PKK) بإعتباره منظمة إرهابية، إلى جانب كفاح ثنائي مشترك لمحاربة مسلّحيه المتمركزين على الأرض العراقية، واصفة إستهداف هذا الحزب لتركيا بـ”التهديد المشترك للبلدين” وإنتهاكاً للدستور العراقي، حيث رحبت آنقرة بهذا القرار بعد مفاوضات رفيعة المستوى في بغداد ضمّت وزيرَي الخارجية والدفاع ومستشارَي الأمن القومي للبلدين وأفضت إلى هذه النتيجة الطيبة من حيث المبدأ، وإتفاقهما على تشكيل لجان ثنائية مستدامة لمكافحة الإرهاب في بقاعهما.
أهمية الخطوة العراقية
في أواسط شهر آيار 2014، أجبرت تركيا بإتباع ضغوط متنوعة- مقاتلي PKK على مغادرة أراضيها بصحبة أسلحتهم إلى شماليّ العراق المتاخم، وكان خطأً لا بُغتفر من الناحية الستراتيجية، كونها لا تتوقع ما وراء الأفق، وذلك على أمل أن تجرّدهم القوات العراقية بالتعاون مع البيشمركة المسلحة الكردية من أسلحتهم.. ولكن حكومة بغداد لم تقدِم على ذلك، إمّا لإنعدام الإرادة السياسية لديها، أو ضعفها أمام السطوة الإيرانية الداعمة للـPKK،، ولربما عدم رغبتها من حيث الأساس على التنفيذ لسبب أو لآخر.
وبذلك إنخرط 2000 مسلح من PKK إلى صفوف رفاقهم في أقاصي شمالي العراق العصيبة، فأمسوا بواقع 4500 مسلّحاً يعيشون كالإنسان في قديم الزمان وسك كهوف الجبال الشاهقة والوديان السحيقة وفي أتون قرى نائية بعيدة عن الأنظار، وهم الأعرف بشعابها ومتمرسون على القتالات الجبلية وهي أصعب طُرُز القتال، وبالأخص حين يتبعون أساليب حرب العصابات، فأضحوا يشكلون خطراً ملموساً نحو الوطن التركي.
وحينما توغلت القوات التركية ذات الإختصاص في حروب العصابات والجبال في شمالي العراق، ورغم إيقاعها خسائر كبيرة في صفوف إرهابيي PKK وتحييد المئات منهم، وإنشائها قواعد وربايا ومعسكرات في الأعماق، فإن عمليات الإرهابيين حيال الجنود الأتراك لم تتوقف بشكل كلّي، رغم تدنّي مستويات فعالياتهم في الداخل التركي.
ان الأسباب الواضحة في عدم النجاح الكلي للقوات التركية في هذا الشأن تعود إلى إنعدام تعاون الجانب العراقي معها لأسباب مُخجِلة بحق دولة العراق، سنأتي على تلخيصها لاحقاً.
مكافحة العراق للإرهاب
إن أهمية هذه الخطوة العراقية تكمن في نقاط عديدة، قد تكون أبرزها:-
أنها حلّت في ظرف يعاني فيه العراق من الإرهاب الذي إستعصى القضاء عليه، وذلك لعدم تمكّن حكومتها الإتحادية من إتخاذ قرارات امركزية سوى على الورق، فأصحاب القرارات السياسية لديه متعاكسون لصالح هذا الجانب وطالح سواه، أو تنفيذ هذا وتأجيل ذاك، فبذلك أُهمِلت القرارات أو أُجِّلت إلى أجال غير مسمّاة ولم تُنفّذ، لذا فإن هذه الخطوة العراقية المعلنة أمام وسائل الإعلام، قد تكون واجبة التنفيذ هذه المرة أكثر من أي وقت مضى.
يعيش العراق منذ عام ونيّف من الأشهر إستقراراً سياسياً وأمنياً نسبياً، وذلك منذ ترؤس السيد محمد شياع السوداني الوزارة الحالية، لذلك قد تكون هذه الخطوة صادقة يستطيع إحقاقها هذه المرة، لا سيّما وأن إتفاق “سنجار” المبرَمة قبل 3 سنوات في عهد وزارة مصطفى الكاظمي الضعيفة، والتي نصت على ضرورة تسيير حكومة بغداد أوضاع هذه المنطقة الحساسة والمتشابكة والمباشرة بإخراج إرهابيي PKK من ربوعها ولو بقوة السلاح، والتي ظلّت حبراً على ورق.
أن وصف بغداد لـPKK بالإرهاب وإعلانها كفاحاً مسلحاً ثنائياً بالمشاركة مع تركيا حيال مسلحيه، يقذف على رقبة حكومتها مسؤوليات واسعة مع الجانب التركي الضليع في مكافحة الإرهاب بشكل عام، ومناوءة PKK على وجه الخصوص.
لقد تسربت أنباء غير مؤكدة بُعَيدَ زيارة الوفد التركي ذاته إلى واشنطن في أوائل شهر آذار الجاري قُبَيل حضوره إلى بغداد، أن الولايات المتحدة منحت آنقرة ضوءاً أخضر لتنفيذ عملية واسعة النطاق أزاء مناطق العراق الشمالية، إبتغاء القضاء على PKK أو إرغام إرهابييه على ترك العراق وعموم المنطقة، والتي قد تشتمل كل الحدود مع العراق البالغة 220 كلم وبعمق حوالي 40 كلم في محافظتي أربيل ودهوك التابعتين لمسعود بارزاني، وشن ضربات جوية محددة على أهداف داخل محافظة السليمانية التابعة لبافل طالباني، مع إطلاق عملية خاصة نحو الهدف الستراتيجي الأهم الكامن في قضاء سنجار المتاخم للأرض التركية والسورية، لإنهاء وجود إرهابيي PKK أو تحديد تواجدهم في هذه المنطقة المنكوبة منذ 2014.
مستقبل العلاقات العراقية- التركية
في هذا الشأن ينبغي أن لا نتوقع نتائج عالية المستوى بالمستقبل القريب في تفاصيله، لأسباب متنوعة كما يأتي:-
فمن الناحية السياسية يُحتَمَل أن يناوئ أكثر جهة سياسية عراقية ذات سطوة قرار بغداد المعلَن، وتحاول وأده قبل المباشرة بتنفيذه، وبالأخص تلك المرتبطة بإيران جهاراً، والتي ليس من صالحها أن يتحقق هكذا تعاون وطيد مع تركيا بمستوى تمتد معه يدٌ تركية طولى في بعض العمق العراقي، وكذلك سيعترض الشطر الشرقي من إقليم كردستان العراق الذي يتحكم فيه حزب الإتحاد الوطني (YKT) بزعامة بافل جلال طالباني على القرار إبتغاء مناوءة خصمه مسعود ملا مصطفى بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي.
ومن ناحية المعلوماتية- الإستخباراتية، فإن جهاز المخابرات العراقي ليس بالمستوى المُضاهي للمخابرات التركية بحيث يَفيدها في هذا الصدد، بل العكس هو الصحيح.. وينطبق الشيء ذاته على الإستخبارات العسكرية لدى وزارة الدفاع وإستخبارات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية، ولذلك يتم التعاون التركي المشترك مع حكومة أربيل بشكل أفيد وأنجَع.
اما في الجانب العسكري تكمن المصيبة الأعظم، فجيش عراق ما بعد 2003، على العكس من جيشه السابق، فهو معدوم الخبرة في الحروب الجبلية، لأن نظام الحكم القائم كلّفه بواجبات أشبه بمهمات الشرطة بأمور الأمن الداخلي، فلم يَخُض حرب عصابات سوى مع “داعش” في أرض براح وسهول وأحياء سكنية داخل مدن وبلدات لا صلة لها بحروب الجبال والوهاد والكهوف وإنعدام الطرق والمسالك، لا سيما وان أي جندي منه ظلّ مُحَرّماً عليه مجرد العبور إلى إقليم كردستان منذ 1991، وحتى بعد 2003 ولحد يومنا هذا، كون الدستور الكردستاني المُقَر في أربيل من جانب واحد يحرم دخول الجيش العراقي إلى الإقليم إلاّ بطلب طارئ من حكومة أربيل الفيدرالية وموافقة برلمانه!!!
الحشد الشعبي يُفترَض كونه أدنى مستوىً من الجيش في التدريب والإنضباط والأداء والعقيدة العسكرية، وقد ظلّ ينشئ نقاط تفتيش وسيطرة في مفارق الطرق ومداخل المدن والبلدات وإنشغل في تسيير أعمال المكاتب الإقتصادية للفصائل المسلحة وجني أموالها، وسط بقاع لا تحتوي سوى التلول والهضاب ذات الإرتفاعات المنخفضة.. أما الفصائل المسلحة المحسوبة على محور المقاوَمة والممانَعة فستكون خارج الحسابات في هذا الشأن لأسباب معروفة لا داعٍ لتفصيلها، لدى إقرار أي تعاون ميداني مع القوات التركية في شمالي العراق.
لكل ما ذكرناه يفترض أن تشكل ألوية البيشمركة التابعة لمسعود بارزاني خصوصاً أساس التعاون والتنسيق مع الوحدات التركية، فمقاتلوها -على واقعهم وسلبياتهم- هم أفضل خبرة بشعاب البقاع الصعبة التي يسيطر عليها عناصر PKK أو يتواجد في ربوعها، فهم أفضل إنضباطاً من جميع الذين آنفنا ذكرهم.
الخلاصـة
وبذلك نتلمّس أن هذا القرار العراقي لا يحتمل أن يتمخّض عنه طفرة نوعية في العلاقات بين البلدين الجارَين، وإن نُفِّذَت خطة مشتركة بينهما على الأرض العراقية فستُلقى 90% من مهمّاتها على عاتق القوات التركية ذات الخبرة الرصينة والتجارب الحثيثة وأساليب التعاون مع الطائرات والمُسيّرات والمدافع والراجمات في ضرب الأهداف وسط جبال شاهقة ووِهاد سحيقة وكهوف ومغارات وحرب عصابات مُتقَنة… ولكن العمل المشترك سيحقق فرصة ميدانية يجب عدم تفويتها كي تمارس القوات العراقية البعض من هذه الأمور الصعبة وشبه إنعدام للطرق الصالحة لتنقّل الآليات العسكرية ومُداراة البِغال والتعامل مع الطائرات السمتية، ناهيك عن ضرورات المرابطة والتعايش وإنشاء الربايا والترقّب والترصّد في جبال يبلغ إرتفاعاتها ما بين 1000-4000 متر فوق سطح البحر.
وفي هذا الصدد نرى في هذه الأيام محاولات تركية للسيطرة على مواقع وقمم جبال عالية ومفارق طرق مهمة في أعماق شمالي العراق، مدعومة بضربات جوية عنيفة، وتحشيد قوات متخصصة فيها، تهيؤاً لعمليات على محاور عديدة في قادم الأيام، مع التذكير بأن أيام الربيع قد حلّت وبدات الثلوج بالذوبان مع تراجع غزارة الأمطار، وأن الأشهر الأربعة من الصيف القادم ستكون أجواء مثالية لتنفيذ العمليات العسكرية المزمعة.
ولكن تلكم السلبيات -على أهميتها- لا تعني أن القرار العراقي لا يُعَدُّ فاتحة تخادم بين البلدين في هذا المجال وسواه، وبالأخص إذا ما إستقرت أوضاع العراق السياسية وتحسّن أداء حكومته ومخابراته وإستخباراته وعموم قواته المسلحة نحو الأفضل بإنقضاء الأيام.
والذي يُخشى منه، أن يكون هذا التوغل العسكري إستدراجاً إيرانياً لتركيا إلى مستنقع وسط مناطق جبلية غاية في الوعورة وخوض حرب عصابات في أتونها، وقد سبق وأن ذاق الجيش العراقي الأمَرّين من مصائبها بدءاً من أوائل الستينيات ولغاية 1991، والتي كان لكاتب هذه السطور خبرة محدودة فيها بصفته ضابطاً برتبة ملازم ثم رائد ركن وعميد ركن في ذلك الجيش.