23 ديسمبر، 2024 2:45 م

هل تتحول  مظاهرات واحتجاجات العراقيين إلى العنف ؟

هل تتحول  مظاهرات واحتجاجات العراقيين إلى العنف ؟

قراءة للوضع العراقي على ضوء كتاب التخلف الاجتماعي للدكتور مصطفى حجازي

رغم الأضرار والدمار الذي أحله نظام صدام بالعراق على المستوى المادي والذي تم تناوله بالكشف والبحث من قبل الكثير إلا ان الدمار الذي لحق بالنفسية العراقية المقهورة على مدى عقد من الزمن لم يأخذ نصيبه من البحث والدراسة بغية وضع الحلول والمعالجات لبناء شخصية قادرة على النهوض بالبلد بعملية تنموية تصحيحية بدءا من الآسرة والطفل والمدرسة صعودا الى مؤسسات الدولة…..وهذا ما يجب ان ينهض به علماء النفس والاجتماع بوضع الحلول العملية الملموسة والكف عن المقالات الإنشائية الحالمة الغير مقروءة ومكاشفة المواطن بمواطن الخلل وبما لحق بشخصيته من تشويه وإفهامه ان له حقوق ولكن عليه واجبات…ولما كنا غير مختصين بهذا المجال فأن مقالتنا هذه  إلا محاولة لرمي الحجر بالماء الساكن….

يقر علم النفس الاجتماعي ان الإنسان إذا تعرض للاضطهاد  تحت حكم الدكتاتور أو المتسلط فأن هذا الإنسان  بما يتحمله من قهر ورضوخ خلال فترة من الزمن يحدث خلل بتوازنه الوجودي ويتعرض الى توتر نفسي يتجاوز طاقة الاحتمال هذا الاضطهاد يسقط الإنسان بنظر نفسه وبنظر الآخرين ومهما يكن هذا الإنسان متعلما أو غير متعلم فلاحا مهندسا مديرا…. فهو بحاجة الى الاعتداد بذاته , يحتاج الى الارتياح الأساسي الذي يرافق تحقيق الذات….

 ما هو الحل؟

أما ان يعمد الى تغير الظروف الخارجية من خلال قلب المعادلة والتخلص من التسلط والدكتاتور وهذا غير متاح دائما حيث استمر حكم صدام لثلاثين عاما أو يدافع عن نفسه بظل الدكتاتور بمحاولة التأقلم والتلاؤم ليخفف من وطأة الظلم , البعض ينكفئ على ذاته مبتعدا عن رموز المتسلط وأدواته طالبا للستر وماشيا جنب الحائط , والبعض ينشد الأمان بالذوبان بالجماعة والعشيرة , والأخر يجد عزاءه بماضي تليد يعود اليه… كلها هذه أساليب وسلوكيات دفاعيه مارسها العراقيون بشكل أو بأخر…ولكن ما شاع كوسيلة دفاعيه لدى العراقيين هي محاولة تقليد المتسلط تقليد صدام……

هنا يحاول الإنسان المقهور التهرب من ذاته والتنكر لها , والهروب من الجماعة والتنكر بالانتماء لها , من خلال تقليد المتسلط بملبسه بحركاته بنمط حياته بطريقة حديثه أنه يحاول ان يهرب من عالمه ليذوب بعالم الدكتاتور…ان العملية هنا أعمق من التقليد أنها ما يسمى بعلم النفس بالتماهي , التماهي بالمتسلط , وأكثر عمليات التماهي وضوحا نجدها عند الطلبة المعجبين بأستاذهم الذين يقلدون حركاته وطريقة مشيه….

لقد بينت هذه الحالة بوضوح آنا فرويد من خلال عملها مع الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية  فالطفل الذي يخاف من الشبح يتخلص من خوفه من خلال لعب دور الشبح الذي يخيف طفلا أخر والذي يخاف من اللص يتغلب على خوفه بلعب دور اللص…من خلال لعب دور المعتدي واستعارة صفاته يتحول الطفل من كائن خائف الى كائن مخيف…هذه الوضعية تساعده على التخلص من مخاوفه ومشاعر الضعف والذنب….لذلك الطفل الذي يطلب منه المعلم ان يكون مراقبا في الصف يكون أكثر قسوة من المعلم على زملاءه مثل ما كان أزلام صدام أكثر قسوة على الناس من صدام ذاته.

نكون هنا أمام سلسلة متصلة الحلقات من الاضطهاد الدكتاتور يضطهد الوزير, الوزير يضغط على المدير , المدير على الموظف , الموظف على المواطن ، المواطن على زوجته وأطفاله… الدكتاتور يكذب على الوزراء , الوزراء يكذبون على الناس , الناس يكذبون على بعضهم , يعم مهرجان الكذب مفاصل الحياة حتى الحب والعلاقات الزوجية تصير مشوهه ….

هذا الجو العام لم يفلت منه حتى المعارضين أو من أدعوا المعارضة للنظام أنهم بالمحصلة رهيني سلوكيات وأخلاق وتعنت وكذب النظام السابق ,إنهم يتماهون ويقلدون الطاغية الذي يلعنوه , من هنا تأتي الرمزية العالية على إصرارهم للسكن بمساكن وقصور صدام ووزراءه وأبنائه …حتى طرق تفكيرهم وحلولهم للمشاكل ونظرتهم الى المختلفين معهم وحديثهم لا يتعدى كونه استمرار لسلوكيات سادت سابقا .

نظرة فاحصة على الشارع العراقي تعلمنا كم هي لازالت شائعة أخلاقيات النظام سيارات المسئولين الفارهه  والبيوت الفخمة , بذخ أولادهم , شرطي المرور , الموظف المتعالي , الضابط وطريقة مسكه للعصا….. الكل يحمل بداخله صدام بهذا الشكل أو ذاك.

لماذا لم تختفي سلوكيات وتبعات النظام رغم زواله ؟

كل ثورة أو حدث يريد إجراء تغير في مجتمع ما عليه ان يقدم نموذج أخلاقي مختلف عما سبقه حتى يتبناه المجتمع….الإمام الحسين قدم نموذجا بالتضحية بحياة زائلة مخالف لنظام يزيد المحب للحياة والشهوات , غاندي قدم نموذجا جديدا , جيفارا عرف ان الجلوس على كرسي الحكم لا يليق بالمناضلين….

من جاء بعد 2003 لم يقدم نموذجا يقتدى به بل كانوا نسخة أخرى لعبث الدكتاتورية بعباءة جديدة , الحصان ذاته ولكن السرج تغير فقط , وهذا ما يدركه كل عراقي الآن.

إصرار الشباب في ساحة التحرير على تنظيف الساحة بعد المظاهرات , والانضباط العالي ومناداتهم بحقوق الناس وليس بمطالب ذاتيه , نبذهم الطائفية وإصرارهم على رفع العلم العراقي فقط وتطوع المحامون في بابل للدفاع عن المتظاهرين بدون مقابل في بابل….كل هذا وغيره سيشكل منطلقا لبناء نموذج لائق كفيل ان يغسل نفوس الناس ويطهرها مما علق بها على مدى الفترة الماضية…. نحن أمام تشكيل وعي جديد , وعي تشكله مظاهرات الجوع , مظاهرات سابقة لتوجيهات المرجعية ولتنظيرات الفضائيات والمقالات , الكل يحاول اللحاق بها ليحجز له مقعدا , الكل يحلم ويحاول  ان يكون قائدا لها….ولكنها مشت مسافة بعيدة وسبقت الكل…. وسيرفض المتظاهرون أي قيادة , هي تقود نفسها وستفرز قيادتها من الشباب بوعي وطني مختلف تماما عن وعي الناس الذين أفرزهم النظام السابق , مؤيدين ومعارضين.

ما الذي يحدث إذا لم تتم الاستجابة لمطالب المتظاهرين وإرضائهم ؟

 أن الإرضاء لن يتم أبدا بدون إعادة ترتيب بناء النظام السياسي والاقتصادي والثقافي بشكل يتيح للشباب, المتظاهر المطلع على الفيس بوك والانترنيت والحامل جهاز موبايل يجلب له العالم بين يديه  والذي لم يعد لابس (حنديرة) كما يظن رجال الدين والساسة , يتيح له حياة كريمه وزواج وفرص عمل….أنه مؤمن بربه ومصر على زيارة الإمام الحسين ولكن هذا لا يمنعه من مقارنة بغداد باسطنبول والمنتخب العراقي ببرشلونة…..

ان ما تعرض له العراقي من اضطهاد في ظل الدكتاتورية وما أعقبها ولد في داخله كبتا وعدوانية متراكمة حاول التخلص منها ,كما اشرنا, بطرق شتى , تقليد المتسلط أو الانكفاء حول ذاته أو توجيه العدوان نحو المجتمع والمقربين إليه أو اللطم على القديسين والأولياء …كل هذا لا يشكل سوى حلول موقتة وجزئية لا تجنب المرء تراكم التوتر النفسي وتفاقم الحقد الداخلي لا بد من وسيلة أخرى أكثر فعالية لتفريغ هذا التوتر وتصريف هذا الغليان فيذهب المرء إلى العنف الموجه ضد السلطة.

إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ان العنف الذي اكتسح العراق , بغض النظر عن أسبابه الداخلية والخارجية , كان موجها ضد الإنسان , ما أضاف لهمه هما ودمارا لنفسيته المدمرة أصلا , ولذلك لم يشكل تفريغا وتصريفا للكبت والعدوانية بل كان عاملا مضافا …. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار العامل الاقتصادي والبطالة ونزول أسعار النفط وعدم توفر الوفرة المالية عند الدولة لتتمكن من إرضاء الناس ,والفساد المالي والإداري…..كل هذا وغيره سيقود بالضرورة إلى تحول مظاهرات واحتجاجات العراقيين إلى العنف حتى لو تم إخمادها موقتا فان احتمالية العنف ستكون أكبر حتى لو فيما بعد. ودلالة الاستعداد للعنف ملموسة, بشعار خل نعبر الجسر , وفضوها لا نعبر دجلة , والتذكير بالسحل… العنف هو لغة العراقي الأخيرة الممكنة لتغير الواقع.. حين تترسخ لديه القناعة بالفشل بإجبار المتسلطين والمتنفذين والمنتفعين بكيانه وقيمته حين يعجز عن إيصال صوته يظل العنف هو الوسيلة الأكثر شيوعا للتخلص من العدوانية التي تدين الذات من خلال توجيه العدوانية نحو الخارج والتي ستكون صريحة مذهلة ومفاجئة للكل .

وعليه يجب ان تترك المظاهرات لتأخذ مداها وان يباشر بعملية إصلاح حقيقي لبنية العملية السياسة مع مكاشفة ومعالجة للحقبة الماضية وان يحاكم من يحالكم ويستقيل من يستقيل …وأن تتحمل أمريكا مسؤوليتها التاريخية لدفع الأمور بهذا الاتجاه وإلا فالمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ……

حفظ الله العراق………..

 [email protected]