18 ديسمبر، 2024 9:56 م

هل انتحر يسينين أم قتلوه؟

هل انتحر يسينين أم قتلوه؟

انتحر الشاعر الروسي الكبير يسينين عام 1925 , وكان عمره آنذاك ( 30) سنة ليس الا . هكذا علمنا , او , بتعبير أدق , هكذا قال لنا اساتذتنا الروس , عندما كنا طلبة في ربيع أعمارنا بالجامعات السوفيتية في ستينيات القرن العشرين . لازلت اتذكر كيف قرأت لنا مدرّستنا قصيدة ( شاغانيه) الرائعة ليسينين , والتي يتغزّل فيها بفتاة فارسية اسمها شاغانيه التقاها في القوقاز , وشرحتها لنا ( وقد حفظناها عن ظهر قلب تقريبا اثناء الدرس !) , وتحدثت بعدئذ عن انتحاره في غرفتة بفندق بمدينة لينينغراد , وكيف انه كتب بالدم ( احتجاجا على عدم وجود حبر في الغرفة !!!) قصيدته الاخيرة على جدار تلك الغرفة , وهي قصيدة بعنوان – ( وداعا يا صديقي وداعا) , ولازلت أتذكر كم تألمنا ونحن نستمع الى قصة انتحار هذا الشاعر ذو الوجه النوّار والرائع والمبتسم , الذي كتب تلك القصائد الرقيقة والجميلة والمليئة بروح الشباب واحلامهم الخياليّة الحلوة .
ومرّت الاعوام , وانهينا دراستنا وعدنا الى الوطن , وعندما كنّا نزور موسكو في العطل الصيفية , بدأنا نسمع من اصدقائنا الروس انفسهم ايضا قصة اخرى حول موته , وهي ان يسينين لم ينتحر , وانما تم تدبير مقتله عمدا من قبل أجهزة معينة في الدولة السوفيتية, وان قصة انتحاره غير حقيقية جملة وتفصيلا . بدأ هذا الحديث همسا اول الامر , في اواسط السبعينات من القرن الماضي , وسمعنا هذا ( الهمس !) اولا من الاصدقاء الروس القريبين الينا روحيا , اي الذين كنا نمتلك معهم علاقات تسودها الثقة المتبادلة نتيجة سنوات طويلة متراكمة من الصداقة والاختلاط معا , وكنّا نقول لهم آنذاك , ان كل شئ جائز في هذا العالم العاصف , وان الحقائق يجب ان تظهر يوما مهما طال الزمن , ولكننا كنّا نقول ايضا , ان نصف قرن مضى على حادث انتحاره , وان تلك الفترة كافية من اجل ان تظهر الحقيقة , فلماذا السكوت لحد الان عنها ؟ ولماذا لا يتحول هذا الهمس ( ان كان حقيقة ) الى كلام علني صريح , خصوصا وان شعر يسينين كان يزداد انتشارا وشعبية في روسيا , بل و في العالم ايضا ؟ ولكن لم يكن باستطاعة هؤلاء الاصدقاء الروس آنذاك أن يجيبونا عن تلك الاسئلة طبعا , اذ كان الخوف من الكلام الصريح في مثل هذه الامور لازال سائدا في سبعينات القرن الماضي رغم كل التغييرات التي حدثت في الاتحاد السوفيتي, اذ كانت – مع كل ذلك – هناك (آذان عند الجدران !) تسمع وتصغي وتتابع و تدقق وتحاسب , وكنّا نحن نتصرف دائما بحذر شديد ( ترسّب في اعماق روحنا منذ ايام الدراسة في الستينات بموسكو) , و لاننا – ايضا – كنّا ضيوفا عند هؤلاء الاصدقاء الروس , وكنّا ننطلق طبعا من مفهومنا العربي الخالد – يا غريب كن أديب .
جاء ت الثمانينات , وبدأت في الاتحاد السوفيتي ظواهر جديدة لم نكن نعرفها سابقا, مثل البيريسترويكا ( اعادة البناء) و الغلاسنوست ( العلانية ) وغيرها ( والتي أدّت في النهاية الى ما ادّت اليه , وصولا الى انهيار الدولة السوفيتية كما هو معروف ), وتحوّل الهمس الذي كنّا نسمعه آنذاك حول انتحار يسنين الى كلام علني صريح , وأذكر اني قرأت ( اثناء احدى زياراتي لموسكو في العطلة الصيفية) مقالا مسهبا بقلم أحد رجالات الشرطة , من العاملين في التحقيقات , اشار فيه الى الثغرات غير القانونية في التقارير الرسمية عن انتحار يسينين , وعندما حكيت ذلك للمرحوم د. محمد يونس في بغداد, سألني رأسا – ( هل جلبت معك هذا المقال؟) , فقلت له – كلا , فقال محمد – ( آه لو جلبته معك , فاني كنت سأقوم بترجمته الى العربية الان) .
الحديث عن انتحار او مقتل يسينين لازال مستمرا لحد اليوم في روسيا الاتحادية , فقد عرض التلفزيون الروسي – مثلا – قبل ثلاث سنوات مسلسلة بعدة حلقات عن حياة يسينين , وقد تابعتها بدقة في حينها , وكان من الواضح فيها الاشارة الى مقتل يسينين وليس انتحاره , ولكن الموضوع – مع ذلك – لم يكن نهائيا, ونقرأ في المصادر الروسية المختلفة عن آراء متنوعة , بل ومتناقضة بعض الاحيان حول هذه القضية , وقد قالت لي واحدة من زميلات الدراسة بجامعة موسكو (في تلك الايام الخوالي) مرة – ( لم يتدخل يسينين في السياسة ولم يكن له مواقف محددة من مشاكلها , فلماذا يقتلوه ؟ )
اود – ختاما لهذه المقالة – ان اشير الى مقالة جاءت قبل ايام ليس الا في صحيفة ( ليتيراتورنايا راسيّا ) الادبية الاسبوعية , الصادرة بتاريخ 20 – 27 حزيران / يونيو 2019 , مقالة شغلت صفحتين باكملهما عن موت يسينين , حيث يعرض الكاتب كل هذه الآراء , ويدعو الى ضرورة دراستها بموضوعية , لغرض الوصول الى الحقيقة بشأن هذا الموضوع المهم في تاريخ الادب الروسي , وهي دعوة صادقة تعبّر فعلا عن آراء كل المهتمين بالشأن الثقافي الروسي وعشاق ومحبي يسينين – شاعر ( الصبا والجمال !)…