23 ديسمبر، 2024 5:17 م

هل المُفَكِّرُ… فقيه عصره؟

هل المُفَكِّرُ… فقيه عصره؟

شاعت في الكتابات والمحادثات والمؤتمرات العربية منذ النهضة العربية (كما أُطلق عليها بعد نشوء الدولة القومية في الوطن العربي عقب نهاية الحرب العالمية الاولى وتقسيم الوطن العربي الكبير) وحتى يومنا هذا, تقديم شخص ما بأنه المُفكّرِ العربي (الكبير) أو المُفكِّر (الإسلامي) المعروف أو المثقف والأُستاذ أو الشيخ الدكتور أو العالم ؛ وأُبعدت أو اختفت عبارات أو مصطلحات عربية كالفقيه الاسلامي فلان ؛ وأخذ الكثير يخلط بين هذه التعابير: أستاذ ومُفَكَر وفقيه ! وشيخ, وهذا خلط في دلالة هذه المصطلحات عند الكثير في كتابات المتحدثين وسمعت هذا الخلط مراراً. “إذ لا يكفي أن يكون هناك مفكرون لا يملكون آليات الاجتهاد ولا فقهاء مجتهدون لا يملكون خبرات العصر المعرفية”.
لا يوجد نقاش حول اصطلاح “فقهاء” دينياً وتاريخياً فهو يعني: العالم باستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الفقهية (القرآن، السنة، القياس، الإجماع وأخيراً الاجتهاد) لحل مشاكل فردية أو اجتماعية أو دولية حسب الحاجة والعصر، وهم علماء الأمة في كل مكان وزمان حسب نشاطهم وكثرة طلابهم ونشر آرائهم في كتب وفي الصحافة والمؤتمرات والتلفزيون والانترنت ومن خلال أحزابهم وطرقهم الخاصة.
أما اصطلاح “مفكرين” ومفردها مُفَكر وأصلها فِكْرَ فهو مصطلح موَلَّدْ أي جديد بأبعاد إستخدامه في لغتنا العربية والعلوم الإسلامية، وخاصة بين المتعلمين ووسائل النشر الصوتية والمرئية ؛ ومن المؤسف أنه شاع فهم غير دقيق لمدلوله العميق، وإن عدداً كبيراً من الكتاب المسلمين الحاليين يستخدمون كلمة المفكرين (المفكر العربي والمفكر الإسلامي) في كتاباتهم( ). وها نحن نجد الكتابات الإسلامية تستخدمه في الجرائد والمجلات والمحاضرات مثل: المفكر الإسلامي الكبير أو المعروف( )  ويطالعنا الدكتور خليل أحمد خليل بأبعد من ذلك بمصطلح: “الفقيه مفكراً، والمفكر فقيهاً”( ).
استخدم القرآن الكريم كلمة فَكَّر مرة واحدة بصيغة سلبية: “إنه فكَّرَ وقدَّرْ، فقُتِلَ كيف قَدَّرْ”( ). نزلتْ في الوليد بن المغيرة بعدما سمع القرءآن من رسول الله وأُعجب به فاذا به يغير رأيه تحت تأثير أبا جهل عليه فقال:”فدعني حتى أُفَكِرَ فيه, فلما فكر قال:هذاسِحرٌ يؤثره عن غيره. “أي استنبط فكرة سلبية تابعة لهواه فيما يقوله طعناً في القرآن الكريم وقدَّر أي: هيَّأَ ما يقوله في نفسه”( ). أي بتعبير أوضح استنبط تصوراً سلبيا من بنية خياله ليمكر بها على الاخرين (بأبعد معنى).
ولم يتعرض الكُتَّاب الإسلاميون عبر اختلاف العصور السابقة لنحت هذه الكلمة باصطلاح جديد كما هو في عصرنا الحديث، فاسْتُخْدِمَ سابقاً في العربية الزنديق بمعنى الكافر, وقد اختفى هذا المصطلح في عربية اليوم مع كثرة الزنادقة في عصرنا هذا بالذات.
أما في أوروبا فقد استخدمت كلمة “مُفَكِّرْ” بمعنى (زنديق) طوال قرون طويلة حتى نهاية القرن التاسع عشر، فهي تعني عند الكنسية: كل كافر بالأناجيل, وعلى الأكثر هم اليهود وينسحب عندهم على من يُعادي الكنيسة في أقوالها حول المسيح.
حتى جاءت محاكمة دريفوس( ) فانقلب محتواها في فرنسا إلى معنى آخر, واختفى المعنى القديم من القواميس، ليحل محله، “المُخَطِطْ للتفكير الأيديولوجي لتغيير المجتمع”، أي البديل للكنيسة والاعتقاد بالله والأناجيل، أي بتعبير آخر: المفكر هو الإله الجديد للمجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر وهو محرك الطبقة الحاكمة في الدولة الصناعية صاحبة الإنتاج الاقتصادي والفكري( )، والمثقف أقل درجة منه أي المتابع للثقافة عامة المتعلقة بأحوال المجتمع والدولة ويسندها بكتاباته ويُطالع الجريدة باستمرار ويٌناقش في المؤتمرات وينتمي الى الاحزاب ويدافع عن رايه بكل وسلية. ما يقابله في العالم الاسلامي في عصوره الماضية هو الفقيه المدافع عن أحكام السلطان الدينية كالخلافة والدنيوية  كالمعاملات.
فانتشر استخدام المفكر بمحتوى جديد في أوروبا مع صعود الاشتراكية بصورة أخص.
وإن أول من نقل وأشاع المحتوى الجديد لكلمة فَكَّرَ مُفَكِر في اللغة العربية هم مسيحيو الشرق في لبنان مِمَّنْ أَلفَوا معاجم اللغة العربية (الحديثة) واستُخْدِمَ المحتوى الجديد: فَكَّرَ ضد جَهَلَ أي مُفَكِّر عكس جاهِل غير مُتعلِّم، إذن فهوالمفكر الجديد في الوطن العربي حديث التقسيم ؛ ثم ظهرت بعد ذلك كلمة المثقف (أي المتعلَّم في المدرسة ويقرأ أخبار المجتمع الثقافية ويدافع عن رأيه حولها) بمعنى هو إنسان يبشر بمعارفه وعلومه ومواقفه الحضارية العامة بسمات عالم جديد، ومجتمع جديد وإنسان جديد أيضاً( ). فالمفكر (المُنَظِّرْ) هو أعلى درجة في المركز العلمي من المثقف. وتطور معنى المفكر في الشرق بما يعلو على الاستاذ الجامعي في طروحاته الثقافية ويدافع عنها في كتاباته ومناقشاته الفكرية مع معارضية. أما المثقف فهو المتعلم المتبؤ مركزا على الاكثر في الصحافة والاعلام. وإستُبعِدت مصطلحات عربية صميمة واسلامية.
ونتيجة البحث للشاذلي: أن شخصية المثقف في الرواية المصرية قد تكاملت فيها عقدتان نفسيتان لا عقدة واحدة: لقد رافق الشعور بالقصور أو النقص تجاه الحضارة أو الثقافة الأوربية  يرافقه شعور المثقفين المصريين بالاستعلاء- عندما شبوا عن الطوق- تجاه أغلبية مواطنيهم الأميين في الغالب الأعم [….] وكانوا يمثلون أقلية نادرة تسبح وسط محيط عريض من الكتل البشرية ؛ التي كما تبدو للمثقفين وكأنها نسبة مُمَيَّزَة لها قوتها وطاقاتها الفكرية والثقافية الخاصة ( ). في تبؤ الوظائف الحكومية عند الدولة الناشئة  لتسيير أمورها.
ثم أخذت تتلون شخصية المثقف( ) والمفكر كذلك, فتنحو باتجاه الرومانسية عند بعضهم, والواقعية النقدية, والخلط بينهما عند آخرين وهلم جراً، وهو أداة بيد الدولة: وعمله توجيهه لمعالم الكتابة والفن والمسرح والسينماعلى الأخص.
ومن هنا يكون المثقفون وخاصة النخبة منهم [المفكرون أو الفلاسفة] فئة خاصة يتفاعلون في حلقة مغلقة… وإذا انحدر المثقفين من أصل ريفي، فإنهم سرعان ما يتنكروا لأٌصولهم وينحازوا إلى المدينة، ومن هنا يسلكوا سلوكاً اجتماعياً يَنِمُ في داخلهم عن موقف طبقي من مفهوم الثقافة”( ).
“ومن المفارقات المعروفة فرضاً أن المجتمع عموماً يحاسب البَّناء على جدار إن سقط، والنجار على خزانة إن تفككت…. ولا يحاسب المثقف أو [المفكر] على طروحات سلبية بدرت منه، والحال أن خطأه يكون أكثرضرراً للمجتمع وللدولة من سقوط الجدار وتفكك الخزانة”( ). لسبب بسيط وجود دعم سياسي له.
أما في أوروبا فقد أضحى المفكر والمثقف لسان حال الدولة الرأسمالية والاشتراكية والنازية والفاشية والأحزاب المتنوعة الاتجاهات المتلونة في القرنين السابقين. وخلص بحث بالفرنسية بأن المفكر أو المثقف هو ذلك الخائن لمبادئه الباحث عن المادة وسلطة الكلمة الواقعية للناس بأوجه مختلفة( ). وقد انتقل ذلك المفهوم والسلوك الى  كُتَّاب الوطن العربي بكل أبعاده.
أي بتعبير أخر هو انتهازي [يتقن أصول العلوم والآداب والسياسة] أي منافق معاصر. ينطبق هذا الوصف على كل من لبس عدة وجوه باتقان لكي يصل الى مراكز السلطة والقرار بمكر مخادع. لقد أضحى المفكر والمثقف لسان الدولة القومية المعاصرة في أوروبا ثم في البلدان العربية والعالم الثالث كما سُمي، وتنشر له الصحف والمجلات والمطابع كل إنتاجه. ففي السنوات الأخير ظهرت مصطلحات لهم مثل أنصاف المثقفين، سُذّج المثقفين ( ) والمثقف الواعي بدل الغبي( ). وانتشار مصطلحات عديدة في الصحف اليومية بلا رقابة المجامع اللغوية العربية التي اختفى صوتها خلال هذه الفوضى في الكتابات.
بعد الحرب العالمية الثانية حاول باحث ألماني أن يُكون جسراً بين القديم والجديد من خلال تكوين شخصية مخلّطة للمثقف والمفكر في مجتمعه( ) وهذا ما نجده كذلك في محاولة الدكتور خليل بقوله: “علينا دائماً أن نفكر بإعداد البدائل… […] أي “الفقيه مفكراً أو المفكر فقيهاً”( ) فالمثقف أو المفكر له صفات مختلفة فكرياً واجتماعياً عن الفقيه المسلم، فالمفكر هو ابتكار لإله الدولة والمجتمع… وينادي بالفصل بين الدين والدولة، وفي نظره أن التاريخ هو المبدأ الشامل لتحليل كل شيء مادياً أو معنوياً، مستنداً إلى معرفته العلمية عن طريق الحضارة الغربية( ). أما المفكر العربي فهو يمتح تصوراته من نتاج الفكر الغربي فيصوغها باسلوبه ليقنع بها بني جنسه بسلطة ذكائه. وإلأ فهو بوق مثقوب.
ومن خلال هذه العجالة في العرض القصير لاستخدام معنى كلمة مفكر أو مثقف كذلك أجد أننا العرب والمسلمون المعاصرون مدعوون إلى غربلة المصطلحات المستوردة من الغرب وتحليلها دلالياً وتاريخياً على أساس مفهوم عربي وإسلامي دقيق( ) وليس نحت المصطلحات المستوردة واستخدامنا لها بالضرورة الثقافية التي نحن فيها شئنا أم أبينا، هذا الحديث لم ينته بعد، ويحتاج إلى دراسة عميقة له.