(موقف مقالي)
سكان الزمن الجميل، فيما كان الصدق مقياسًا لشخصية الإنسان ومصداقية العائلة والناس، الكلمة طلقة، لا تطلق إلّا نحو هدف منشود، تصيبه في العمق ولا تطيش أو تخطئ أبدًا كرصاصات اليوم ، صاحبها يحترمها ، فاحترامه مشدود بزناد لسانه ، هو رام ماهر ، محترف ولا يطلقها في الفراغ ، أو دون هدف أو معنى حتى صار عاقلنا أشد حاسد للبعير لطول رقبته ، فهي فوهة مريحة لإطلاق كلمة حكيمة ، بساطة أهلنا في ذاك الزمن الجميل وحبهم لبعضهم ، هي السياسة الوحيدة التي تربطهم بالزيّ الأزرق والقانون …..
كان القانون محترمًا فينا ، و الحاكم العادل سيدًا، لم أنسَ شكله لحد الآن بقدر ما نظرت في صورته المختزنة في صندوق جدتي حتى غيبها الموت ، و بقيت الصورة خالدة في بيتنا ، حقيقة مثبتة بمسمار فوق الحائط ، حد إطلاق القول ، وأتذكّر دومًا ولا أنسى ما حييت حكاية أبي التي تحضر خاطري عند مرأى رجل الشرطة أو حكاية تتعلق بتنفيذ القانون…. يقول:
-“يأتي رجل الشرطة على حصان إلى القرية لملاحقة مخترقي القانون ، أبو زيد الهلالي في جبروته ، وعنترة أبن شداد في قوته ….ياااااه….كم كان للقانون هيبة وحضور…!؟ ، فما عليه إلا أن يجلس في مضافة شيخ القرية، يأكل ويشرب وينام، يتولّى رجال الشيخ ملاحقة المتخلفين عن إداء الخدمة الإلزامية أو أصحاب الجنح والمخالفات والجرائم ، حتى يأتون بهم الى رجل الشرطة الذي يشدّهم بخيط رفيع خلف حصانه و يمسك طرفه ، هذا الخيط اليوم ، اقوى من قضبان الجسر الحديدي الذي يربط الرصافة في الكرخ ، يسحبهم بهذا الخيط الرفيع حتى بلوغ المدينة، وإذا انقطع هذا الخيط ، تقوم الدنيا وتقعد على رؤوسهم ، فعليهم أن يحافظوا على سلامته حتى بلوغهم مركز شرطة المدينة….!”
هو دأب الفقراء في تاريخ هذا البلد الامين، الذي يعطي دومًا ولا يأخذ، احترام القانون بهذا الشكل…!… كان للقانون قدسية واحترام لا يتحمّله اليوم ساسة الصدفة والالتصاق, وحتى لا يتصوّروه في أحلامهم ، مادام الواحد منهم يجد الناس صغارًا حين ينظر من مكانته العالية الفارغة من الأخلاق والمسؤولية ، ولا يدري أنّه كلّما علا شأنه ومنصبه خف وزنه ، وصارت سقطته أشدّ من سقطة عطيل وهاملت تحت أقدام الخيانة والغدر…!…هذا القانون الذي كان كبير فينا ، أصبح
لدى موظف الدولة اليوم ، ورقة بيضاء مكتوبة بخط خفيف مهمل ليس فيه روح او إنسانية او عدل ، ينفذها بروتين سطحي غبي أعمى ، لا يحترم روح القانون ولا القانون نفسه ، مادام تنفيذ الروتين اسهل ، فإنعكست دفة القانون و هدفه الذي وضع من أجله…. تلك مشكلة كبرى ، حين أمسى القانون فيها سكيناً حاداً يسكن رقبة المواطن ، يذبحه بدلاً من أن ينصفه أو يحميه ، لا قانون فينا يحمي الأنسان ،كلها ضده دون استثناء….وإذا لم تصدق راجع دائرة حكومية ، كما جربت أنا قبلك ، وسوف ترى الجحيم الحقيقي على الأرض…!؟
وسع خطواته استعدادًا للفرار، رجل في العقد الخامس من العمر، أثار ذلك استغراب المارة في الشارع الذي تطلّ عليه بوابة المحافظة الخارجية….
فقير منّا، كرّمه المحافظ يومًا ، بمبلغ من المال ، لا تدري كم يكون ذاك الفعل كبيرا عند فقير لا يملك حتى قوت يومه، وما أكثر الفقراء فينا….و ذهب الرجل، وقدماه لا تمسّان الأرض من شدّة الفرح….يتمتم بكلمات غير مفهومة، ومن يسترق السمع، لا يدرك منها شيئًا حتى لو سمعها حرفيًّا، لقد اختلط ما فوق لسانه بدواخل رأسه، من أحلام وحسابات وكأنّه امتلك كنوز سليمان و مغارة علاء الدين ومصباحه السحري …..!!
ازدحم رأسه بآلاف الخطط والمتاهات والفواتير والمشتريات، لصرف هذا المبلغ الافتراضي على حاجاته الغير قابلة للعدّ والاحصاء، أظن أن حواسيب العالم تعجز عن تصريف فواتيره المفترضة، يسير بطريقه وهو يعدّ أصابعه ويكلّم نفسه كالمخبول، مرة يعثر وأخرى يصدم بأحدهم أو بعمود كهرباء ويعتذر للعمود، فهو لا يفرّق بين البشر والعمود ، فالصدمة أعتى مما يتحملها عقله ، فقد أفقدته حواسه الخمسة لكثرة فوضى الصراعات المحتدمة في مخيلته، وصل الرجل أخيرًا, أمين صندوق المحافظة ، فسلّمه صك الثروة، ليصرفه له، بعد مراجعة صرّة من الأثباتات الشخصية واستنساخها (الجنسية وشهادة الجنسية وحسن السلوك والبطاقة التموينية وبطاقة السكن وكتاب صحة صدور لكل وثيقة من تلك الوثائق ) ، واستقطاع ربع المبلغ حصة للضريبة، وقبل أن يسلمه شيئًا وبكلمات ثقيلة كثقل الكرسي وطاولة الدائرة الرسمية ، أشار بكبرياء وغطرسة نحو جهة أخرى….
هو هاجس ينتابني دومًا يرافقه تساؤل يرفس عقلي بعنف و إستمرار : لمَ يثقل وزن الموظف سلبًا ويتغيّر شكله وتصرفه و يخشن طبعه و لسانه حين يجلس على كرسي الدائرة الرسمية ، فيميل كلّ شيء فيه نحو التوحّش وقلّة الذوق والوقاحة، يفقد وجهه مسحته الإنسانية وتنتاب تصرفاته الانفلات والقسوة وكأنّه من سكان كوكب آخر ، وليس من سكان مدينتنا ، ولم أحصل على جواب لحد الآن ، رغم أني جلست على كرسي دائرة تربوية أربعين سنة…؟…
يقال والعهدة على الراوي: إن الكرسي هذا يختلف عن الكراسي والمقاعد الأخرى في الطبيعة، فهو مسكون من جنّ أو أرواح شريرة، الموظفة أو الموظف الذي يعتليه، يتعكّر مزاجه سريعًا فيعامل المراجع بجفاء وخشونة غير مبررة، فتراه يحكي معه ليس من فمه بل من مكان آخر، وينسى أنه سيعامل نفس المعاملة حين يراجع دائرة أخرى غير دائرته، وهذا التصرف المنحرف البغيض، سرّ من أسرار الطبيعة البشرية لا يعرفه أحد ولا يدرك تخومه أعتى علماء وفلاسفة علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا…!…أظنّ أنّي أدركت جزءًا منه ، فنحن بشر, وطبع البشر مرتبط بالشيطان , فهو المخلوق الثاني الذي عصى الله بعد الشيطان ثمّ تبعه ، منذ استهلال الخليقة….وعلى ذلك فإن كرسي السلطة مسكون بالشيطان, والجنّ بريء منه…هو رأيي الشخصي ، و قد أكون على خطأ….!؟
إشارة بيروقراطية تحيطها العظمة والجبروت من أصبع الأستاذ أمين الصندوق ، قذفت بهذا المسكين نحو مراجعة امبراطور آخر يدعى الأستاذ (فلان) لاستيفاء أجور الماء، طار الربع الثاني من المبلغ، وقبل أن يذهب استوقفه هذا الموظف وأشار له بالذهاب نحو الأستاذة(فلانة) ليسدّد قائمة الكهرباء، وفعل المسكين وحسم الربع الثالث من المكرمة، التي لم يعرف عنها شيئًا لحد الآن، وقبل أن يذهب نصحه موظف الكهرباء أن يذهب إلى الأستاذ (علان) ليحسم قائمة الهاتف، وفعل الرجل ذلك، ومسح الربع الأخير من المبلغ …
وبدلًا من أن يعود هذا المسكين إلى الإمبراطور أمين الصندوق ليعرف جوهر الحكاية ويكمل إجراءات المكرمة ، اختلس خطواته وانزلق نحو الباب الخارجي لبناية المحافظة، وهو يرتجف من الخوف مأخوذًا بما يحدث، يتلفت يمينًا وشمالًا خوفًا من استيفاء ملابسه ثمنًا لقائمة أخرى لم تظهر بعد…وكيف… هل سيعود لبيته عريانًا…!؟…تساءل الرجل مع نفسه، ربما فاتورة شم نسيم المسؤول…!؟ ، وتسلّل الرجل هاربًا…
هي الطريقة اللائقة والحضارية التي يُعامل بها المحظوظون من الفقراء فينا ….فما بالك بمن ليس لهم حظ ومورد رزق أو معيل أو قوت يوم…..؟