أمريكا وخيارات الإطالة والتقسيم الهادئ للعراق
لقد أصبحت سوريا رقماً صعباً في المعادلة السياسية الدولية, وهاجس مُخيف ومَثّلٌ مُرعب يُضرب به لكل دولة تسيء أحوالها او تضطرب أوضاعها داخلياً وتصبح مسرحاً لتصفية الحسابات الدولية على أرضها, فيتأجج فيها الإقتتال الداخلي, ذلك نتيجة فعلية لما تعرضت له سوريا من حملة تخريب ودمار منظم, وعملية شعواء تكالبت عليها المصالح الدولية .. الأمر الذي لم يترك شبراً من أرض الشام إلا ولامسته رائحة الدم والدخان والبارود, .. ولما أصبحت فيه أضحية التحالفات الدولية التي سعت على تقديم سوريا قرابين نذر تنحرها تضارب المصالح وبناء الإتفاقيات السرية بين حلفاء الحرب على سوريا.
ومما لا شك فيه إنْ سوريا هي إحدى الدول التي تحدث عنها المستشرق اليهودي برنارد لويس وبن غوريون من تبعهم في ملف التجزئة الإستعمارية وإعادة بناء وترتيب المنطقة العربية تقسيماً مناطقياً وطائفياً, ليس ضماناً لأمن وسلامة الشعوب بالمنطقة أو وضع من أجل سواد عيون العرب أو الأقليات بالمنطقة, وإنما لهدف أسمى مُتَمْثل بإبقاء العَرَب في المرتبة الأخيرة من قائمة الدول الناهضة, والحفاظ على تخلفها وإنتكاستها, ومصادرة كل مكتسباتها التاريخية والحضارية, إضافة إلى بقاء التفوق الصهيوني في المنطقة, وحماية المصالح الغربية, وهذين الشرطين لا يتمان بدون سايكس _ بيكو جديد يُعيد إستعمار العرب ويسعى إلى تفرقتهم وتجزئتهم, وهذا هو جوهر المخطط الصهيوني الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق بعد أحتلال العراق 2003 وقيام ثورات الربيع العربي نهاية العام 2010 وهو تدليل على بروز نظرية الفوضى الخلاقة التي يجاهد الغرب من أجل ترسيخها عن طريق التوظيف السلبي للدين في السياسة تاره, وعن طريق التحالفات الخارجية الدولية لتجزئه المُجزء وتقسيم المُقسم بما يضمن تماسك الغرب وتوحده على دمير المنطقة العربية, تارهٍ أخرى.
والمشهد ذاته بدأت مراسمه تلوح بسوريا ثانية في العراق, وقد تكون ثالثة في مصر ورابعة في ليبيا وخامسة في الأردن, كل الدول مرشحة للعب دور سوريا, هي ضحية سايكس _ بيكو الجديد ولأن القضية القُطرية (المحلية) العربية لم تعد محلية او شأن داخلي بقدر ما أصبحت جزء من صراع دولي وتدخل اممي واضح, وهو ما يزيد الطين بله, فالدول العظمى بعظمتها لا تحل المشاكل للدول الصغرى بقدر ما تؤجج الصراعات وتذكي الفتن وتشعل نيران تنانير الحرب بوقود النفاق والتطرف, وفقاً لما تؤول إليه مصالحها ومنافعها, إذ لم تعد للمبادئ والقيم أية دور في التدخلات الخارجية لدول العالم الثالث, فمنطق السياسة الأمريكية هو الحاكم الوحيد بالمنطقة والمتمثل بمقولة لا مبادى .. لا قيم .. وحدها المصالح هي اللاعب الدلي الوحيد.
وعندما نقول إن في العراق سوريا ثانية هو تأكيد إلى إنه المسار أريد له ان يأخذ منحى سوري شئنا ام أبينا, فإذا كانت المدخلات ذاتها والمعطيات على أرض الواقع ذاتها, وأطراف الصراع متشابهين عقائدياً, والداعمين الدوليين واللاعبيين الأممين هم ذاتهم لم تتغير وجوههم واداروهم في سوريا والعراق فأن بالنتيجة _ مما لا شك فيه _ أن تكون المخرجات والنتائج بنفس التركيبة السورية عنها في العراق, فالصراع في سوريا والعراق أرتدى ثوب القداسة وأعتبر إنه حرب من اجل المقدسات, ومن أجل الشعائر الدينية, كانت على الجانب الأخر من جانب المعارضة هي ذاتها حربٍ مقدسة بالنسبة لهم لأنها حرب من أجل مقدسات أخرى (!), وإن السعودية لا تتوانى من دعم سوريا الثورة, وإيران تُغذّي سوريا النظام باليورانيوم المنضب, .. والولايات المتحدة هي القابلة المأذونة التي أنجبت ذلك الصراع, بتوافقات بريطانية _ فرنسية _ روسية ومباركة صهيونية, بل وكانت الولايات المتحدة على درايه تامة _ أو ربما بموافقتها حتى _ على دعم السعودية وايران لأطراف الصراع في سوريا, فكانت القراءات الأولية للمشهد العراقي تشير إلى نفس السياقات والتحولات في سوريا الثورة في أيامها الأولى, حيث إنه الخلاف او الصراع في العراق اليوم هو صراع سلطوي يرتدي قيافة دينية يراد تقديسها, وإن إيران والسعودية لا يتوانا من دعم الأطراف في الداخل العراقي, وإن الولايات المتحدة ما زالت تراقب عن كثب ما يجري هناك, وتنوه بين الفينة والأخرى تصريحات مُخجلة ومتذبذبة, من أجل بقاء باب الصراع مفتوحاً لأجلٍ مُسمى بين الأطراف المتنازعة, ونحن ندرك جيداً إن الولايات المتحدة بإمكانها حسم الصراع في العراق بعصا سحرية خاطفة, لكنها لم ولن تفعل ذلك لأنها غير راغبة بعراق قويٌ أمن ومستقر وفقاً للطلبية الأيرانية _ الصهيونية اللذان سعيا منذ الوهلة الأولى على إبقاء العراق مُفككاً ومُنهكاً حتى يتسنى لهما من ضمان تفوقهما إقليمياً, ولعب دور الحارس للمصالح الغربية مقابل إطلاق يدهما في الدول العربية, فإيران الحليف القوي للكيان الصهيوني والأمريكي في المنطقة اللذان يجتمعان بإنتظام إجتماعاً شبه دورياً في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض !
وأنْ الولايات المتحدة لا ترغب بحسم الصراع لأي طرف نزاع في العراق, بالإتفاق مع بريطانيا والكيان الصهيوني وتركيا وايران ودولة عربية ما, لأن ذلك قد يُتيح إعادة تأسيس دولة قوية عصرية قد تعيد أمجاد الدولة العراقية ودورها في توازن القوى الأقليمية, لكن الولايات المتحدة الأمريكية لن تفعل ذلك كما لن تتخلى عن العراق طالما هو الأبن الذي تبنته قبل عشرة سنوات وهي السبب في تدميره وخرابه كان لزاماً عليها أن تُعيد بناء لحمته الوطنية التي أصبحت من المستحيلات في ظل هو الإنشقاق وهذه المعطيات التي لا تبشر في الخير ولا تسر إلا الخصم المفترض.
فكل الدلائل تشير إلى سوريا ثانية في العراق, تمسك كل الأطراف بقناعاتها (السلطة والمعارضة), التدخلات الجوارية والدولية, التحالفات السرية, إن الحال بلا شك يشير لملامح سورية في العراق خصوصاً ونحن دخلنا اليوم في الشهر الثاني من عمر ذلك الصراع الذي يصعب فيه الحديث عن منتصر, إلا الأجنبي, فهي حرب تصفية الحسابات التي لا يمكن التهكم بنتائجها, وحرب أستنزاف لا يمكن أستئصال نزيفها بالغد الغريب, مما يتطلب مزيداً من الضحايا وهذا ما لا نتمناه.
ويبقى شيئاً وحيداً في كلا المشهدين السوري والعراقي وهو إن الولايات المتحدة سوف تدفع الى مزيد من الصراع وترتقي به إلى مستوى دك معاقل السلطة لسبب بسيط هو دفع كافة الأطراف بالموافقة على الجلوس على طاولة الحوار المستديرة من أجل التوقيع على مرسوم التقسيم _ الهادئ للعراق وسوريا _ الفيدرالي او الكونفدرالي, وهو السيناريو المرشح والأفر حظاً لقبول الأطراف به لمرحلة ما بعد عجز حسم الصراع لأي طرف في المعادلة السياسية المحلية.
فسياسات الولايات المتحدة الأمريكية هي ليست إلا التطبيق لنظريات الفوضى الخلاقة, .. والممارسة لفكر لويس وغوريون, .. والوجود لماهية الفتنة والتقسيم .. والتجديد لأدبيات سايكس _ بيكو القديم, بطروحات جو بايد نائب الرئيس الأمريكي!!