مظاهر الدخول في سباق عالمي محموم للتسلح تبدو ظاهرة للعيان . وليس آخرها نيّة الولايات المتحدة الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى الموقّعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1987 ، واستمرارها مع وريثه روسيا الاتحادية ، لغاية ما أعلن الرئيس الامريكي ترامب في الاول من شباط الجاري ان الولايات المتحدة ستعلق عضويتها في المعاهدة ، وتكمل اجراءات الانسحاب منها بشكل كامل خلال الستة اشهر القادمة . وسرعان ما ردّت موسكو على ذلك بانها بدورها ستعلق عضويتها . والمضمون الاساسي لهذه المعاهدة هو ان يقوم كلا الطرفين بتدمير جميع الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية تتراوح مدياتها بين 500 و1000 كيلو متر ( قصيرة المدى ) وبين 1000 و 5500 كيلو متر ( متوسطة المدى ) ، وكذلك تدمير منصّات اطلاقها ، والوسائل الاخرى الداعمة لها ، مع حق كلا الدولتين بالاحتفاظ بالرؤوس النووية ونظام التحكم . وألحق بالمعاهدة بروتوكولان يتعلقان بنوعية الصواريخ المطلوب تدميرها، وآلية للمراقبة والتحقق. وبدأ الطرفان بتدمير ما لديهما من مخزون لهذه الاسلحة. الاّ ان من الملاحظ ، وخلال السنوات العشرة الماضية ، ان الولايات المتحدة كانت تعرب ، من وقت لآخر ، عن قلقها من ان روسيا لاتمتثل بشكل كامل للمعاهدة ، وتردّ روسيا عليها بالنفي . وما صعّد الامور مؤخرا الى الدرجة التي دفعت الولايات المتحدة للأنسحاب منها ، هو تطوير روسيا لمنضومة صواريخ 9M729. و تدعي واشنطن وحلفاؤها ان صواريخ 9M729 تشكل خرقا ماديا لألتزامات روسيا بموجب المعاهدة ، لأن مداها أكثر من 500 كيلو مترا ، وتردّ موسكو بان هذا الصاروخ هو تطويرلسابقه 9M728 وبنفس حجم خزّان الوقود وبنفس قوّة المحرك ، والتحديث الحاصل فيه يتعلق بدقة نظام التحكم وبرأسه الحربي من حيث زيادة قوته التدميرية ، وهو ما جعل من مدى الصاروخ 480 كيلومترا ، وهو مدى أقصر من سابقه بعشرة كيلو مترات . وبدورها تتهم موسكو واشنطن بانها هي من تخرق المعاهدة بنشرها نظام صاروخي دفاعي في أوربا يمكن ان يتحول الى نظام هجومي قادر على اطلاق صوارخ كروز ، فضلا عن نشرها لطائرات من دون طيار مجهزّة بقوة تدميرية ، مشابهة من حيث التأثير والقوة لصواريخ كروز ، مما يشكّل خطرا كبيرا على أمن روسيا القومي . وفي تشرين الاول الماضي اعلن وزير خارجية الولايات المتحدة ان بلاده بصدد تعليق عضويتها في المعاهدة خلال الستين يوما القادمة . وفي اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في كانون الاول الماضي ، أعلن الحلف أنّه بتطوير روسيا لهذه المنظومة من الصواريخ فانها تنتهك معاهدة القوى النووية متوسطة المدى ، وهذا يشكل تهديدا خطيرا على أمن أوربا ، وان الحلف يؤيد ما ذهبت اليه الولايات المتحدة من انّ روسيا في حالة خرق مادي لألتزاماتها بموجب المعاهدة ، وطالب وزراء خارجية الحلف روسيا بالأمتثال الكامل والقابل للتحقق ، وفي حالة عدم التخلص من هذه المنظومة من الصواريخ والعودة الى الأمتثال الكامل خلال ستة أشهر ، فان روسيا تتحمل وحدها المسؤولية عن موت هذه المعاهدة .
هذا ما يطفو على السطح ، بيد انّ الوضع يبدو اعقد من هذا بكثير . أذا رجعنا الى المعاهدة المذكورة ، فان الطرف المستفيد منها هو الولايات المتحدة ، لأن المعاهدة تتحدث عن الصواريخ التي تطلق من الارض ، اما الصواريخ التي تطلق من البحر أو الجو ، فغير مشمولة بهذه المعاهدة ، ومن الواضح تفوق الولايات المتحدة الكبير في هذين المجالين ، فلماذا اذن تلجأ الى الانسحاب من معاهدة هي الطرف القوي فيها! أسباب متعددة تجعلها تفعل ذلك . على مستوى العلاقات الثنائية مع روسيا ، فانها بدأت تستشعر ان روسيا تحاول استعادة دورها عالميا ، وبدأ الرئيس بوتين يعيد انتاج الأتحاد السوفياتي مما يضع حدا لعالم ذي قطبين أو متعدد الاقطاب ، وتجسّد هذا الدور على الارض بضم جزيرة القرم الى أراضيها وتدخلها العسكري في اوكرانيا وسوريا وموقفها الحاسم في الاستمرار بلعب هذا الدور ، في حين لا تريد الولايات المتحدة لروسيا ان تكون أكثر من قوة اقليمية . لذا فهي ، أي الولايات المتحدة ، بحاجة الى التفوق العسكري وتطوير كفاءة وفعّالية منظومة صواريخها لكي تظل الأقوى ولكي تحافظ على استمرار قيادتها للعالم . ولم تخف موسكو قلقها من ان هدف واشنطن الحقيقي هو الدخول في سباق تسلح يهدف الى اضعاف الاقتصاد الروسي ، كما حدث اثناء الحقبة السوفياتية ، وان واشنطن كانت تخطط لذلك منذ زمن ليس بقريب .على المستوى الاسيوي وتحديدا في شرق آسيا ، فانها ، أي الولايات المتحدة ، بحاجة الى مواجهة التنامي السريع للقوة العسكرية في الصين التي استفادت من عدم شمولها بتلك المعاهدة الثنائية ، لتطوير انظمة صواريخ متوسطة المدى ذات قوّة تدميرية كبيرة قادرة على اغراق حاملة الطائرات . واذا ما حافظت الصين على هذا الزخم ، فستشكل أكبر تحد للولايات المتحدة خلال العقد القادم في تلك المنطقة وفي المحيط الهادىء أيضا . أمّا على المستوى الاوربي فانّ المتضرر الاكبر من موت المعاهدة هو أوربا ، لذلك ستكون بحاجة الى دعم أكبر من الولايات المتحدة مما يقوّي من تأثير الأخيرة على أوربا ويزيد من حاجة اعتماد أوربا عليها .
لا يتوقع من الرئيس الامريكي التراجع عن الانسحاب ، وبالمقابل لايبدو على رئيس روسيا انه سيتخلى عن تطوير صواريخه الذي يقول انها لاتخلّ بالتزاماته بموجب المعاهدة . واذا ماحدث وتشبث الطرفان بموقفهما، فان العالم سيبدأ في سباق تسلح اقوى وأسرع مما كان الحال عليه اثناء الحرب الباردة .ويرى المعنيون بمتابعة شؤون التسلح ، ان الولايات المتحدة قادرة على خوض مثل هذا السباق بانفاق عسكري خصص له 700 مليار دولار في ميزانية الولايات المتحدة لعام 2018 وفي المقابل لا يتجاوز الانفاق العسكري الروسي بأكثر من 50 مليار دولار للعام نفسه . ومن الطبيعي انّ هذا السباق لن يقتصرعلى روسيا والولايات المتحدة وحدها ، بل سيشمل دولا اخرى طامحة في ان تكون قوية ، وبالذات تلك التي لديها مطامح التوسع والتمدد ، واكثر ما سينعكس ذلك على الشرق الاوسط وشرق آسيا . ومن المحتمل ان يفشل هذا الانسحاب المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ، ويعطّل مساعي الولايات المتحدة لأقناعها بنزع سلاحها النووي ، وسيقوّي من موقف أيران على المستوى الدولي ويغريها بأجراء المزيد من اختباراتها في تحديث برامج صواريخها البالستية وتطوير برامجها النووية وسيكون العقد القادم من اخطر العقود ، مالم يتم تدارك الاوضاع ، لاسيّما وان الكثير يرى انّ معاهدة القوى النووية متوسطة المدى بين روسيا والولايات المتحدة، وفي ضوء التقدم التكنولوجي العالمي السريع والواسع لأنتاج وتطوير الصواريخ البالستية، لم تعد ذات جدوى. واذا كانت تلك المعاهدة قد ساهمت بشكل كبير في انهاء الحرب الباردة وتحقيق الامن في أوربا ، فان العالم اليوم بحاجة الى معاهدة متعددة الاطراف تحت رعاية الاّمم المتحدة ، أو توسيع المعاهدة الحالية بانضمام اطراف أخرى اليها لكي تكون أكثر فعّالية في السيطرة على التسلح على مستوى العالم .