22 ديسمبر، 2024 11:30 م

هل الحماقة ،،”أعيت من يداويها” (مبحث فلسفي قصير)

هل الحماقة ،،”أعيت من يداويها” (مبحث فلسفي قصير)

الجواب المختصر بدقة هو ان الاحمق لا يدري بخطئه ولا يذعن لمناظره اذ لايميز بين الصحيح والخطأ ويستلزم هذا ان لايجدي معه النصح او الجدل او الاحتجاج وان كان مفحما و بالتالي فهو لايغير من رأيه الباطل او معتقده الفاسد ،فينتج عن تلك العملية المركبة التي تدور في عقله الخاوي او المقفل ما تراه انت جاهزا و لاتفقه تفسيره ،،الا وهي الحماقة ،
وفي تبيين اولي لفائدة المبحث فإن الغباء لا يطابق الحماقة -كما يشتهر- فالشخص الغبى لا يملك “العقل والتفكير” وليس لديه القدرة على التواصل وذلك لخلل معين فى تكوين عقله ، وهو غير الاحمق الذي يملك العقل والتفكير ولكن لايستطيع توظيفهما او موائتمهما بالطريقة الصحيحة ، فمثلا يمكن لشخص ان يملك تجارب او شهادات ولكن لايستطيع التحكم فى تصرفاته وافعاله فتكون تصرفاته وافعاله حمقاء في حياته او مع الناس. لكن الشخص الغبى يكون عنده خلل فى تكوين المخ واستقبال المعلومات ، لذلك فالغبي لايؤاخذ على مايفعل لو كان لذلك قوانين مدنية ، و من مصاديق ذلك انه ليس من المقبول محاسبة الطفل على تقصيره لانه قد يكون طفلا غبيا ، ولكن لا يكون الطفل احمقا ابدا
ومن الفروق بينهما ان الغباء عام والحماقة فردية ، والسياسة او الادارة مثالا انظر في السياسة وحيث الغـباء ينتشر ويظهر بشكل خاص وواسع فتتناغم الشعارات الغبية مع الجمهور الغبي الذي يشكل الناخبين، فهذا الشعار يمثل نظرة ذلك الغبي للعالم.وبالنتيجة سيصبح الغباء بطريقة دراماتيكة فعالاً ومؤثرا في البيئة المناسبة ،و يستهدف نوعا من الضعف بشكل فعلي. ولابد من فصِل هذه النقطة عن التظاهر المجوف والمتعالي الذي يتهم الطرف الشعبي بالحماقة أو الجهل ، فالقيادة اهم من الطليعة ومن الجماهير في امور السياسة و دائما “على راس كل تحرك أحمق هناك غبي يقود”.
فالغباء إذن يتسق مع المخرجات او الانجازات التعليمية، كما أنه خاصية ثقافية سياسية أكثر من كونه خاصية ذاتية خلقية، فيجب التعامل معه من هذا المستوى ، وهو ليس كالحمق “وهذا مايحاكي آثار الغباء و ان لم يكن منه اصالة ، اذن “يمكن ان نتغابى احيانا لكن لانكون حمقى” كما يقول احد المختصين النفسيين. و لذلك فانك تلمس اقبال الاغبياء بشكل كبير على الشهادات و المؤهلات هربا من فكرة الوصم بالحمق ولكن تبقى مشكلة الغباء قائمة لايمكن التحايل بها على المجتمع بالتستر وراء الالقاب او الوثائق والمناصب .
و برأيي ان الغباء يمكن علاجه في بعض مراحله او مستوياته ، وهذا من فروقه الاخرى عن الحمق ذاك انه ليس مرضا متأصلا او عيبا خلقيا على الاغلب ، يقول (روبرت موزيل محاضرة في فيينا، بعنوان ”عن الغباء” 1937 ) :
“ان الانسان الذكي قد يكون غبيا مؤقتا عندما يكون-كما وصفه- (غير متصل) ، مثلا يحتال عليه احد ويسرقه او يغلبه ثم بعد ان يفيق على خسارته فيستغرب كيف كان بهذا الغباء رغم ان الحيلة كانت واضحة تقريبا ، الحقيقة انه كان غير متصل لسبب عاطفي او عملي” انتهى كلامه. وهذا مانسميه نحن في اللغة العربية بالذهول او الانشغال ،، شخص من الاذكياء و تسمع منه الناس ولكنه في غفلة غباء بقي لسنين دون زواج ودون اولاد حتى تعدى الامر الوضع الطبيعي للحياة فينتبه متاخرا بينما فعل ذلك ونجحوا ، بعض من طلبته او ممن يتعلمون منه او من هم من ضعاف العقول دون حاجة لأي تميز في العقل ، فهذه هي الغفلة عما يعرفه الجميع ، و هي غفلة غباء جزئي او مؤقت ، قد يواجهها الاذكياء.
ويقول المفكر والكاتب البريطاني Sacha Golob في دراسته (Why some of the smartest people can be so very stupid) ان القدرة على التفكير والشهادة الدراسية كلاهما يقدمان تطمينا زائفا للغبي و الاحمق انهما ليسا كذلك فينخدعان ويعاندان ويجادلان ويصران انهما من اسوياء المجتمع ونصحائه : ،،فبقليل من التفكير نؤكد بأننا لسنا اغبياء ولا محط سخرية،، ومع الشهادات المناسبة نثبت بأننا لسنا حمقى،،. ولكن مع ذلك قد نقع في فخ الغباء. ومن تجارب التاريخ، فإنه بعد مئات من السنين، سيجد أحفادنا جزءاً واحداً على الأقل من أخلاقياتنا المعاصرة غير مفهوم ” كيف لناس محترمة أن تصدق ذلك؟” فإذا لم يحكموا علينا بالشر سيضطرون إلى استنتاج أننا كنا أغبياء.” انتهى كلامه.
وانا ارى ان الغبي لابد من وجوده في الحياة ،و إلا فمن يشتري من الصناع والباعة بضائعهم الكاسدة او صناعاتهم الزائفة او منتجاتهم الرديئة دونما تمحيص حتى في تاريخ الصنع او صلاحيته وجودته؟ الغبي فقط طبعا، وهو الذي يلومك ان فعلت ذلك ونظرت في تاريخ الصلاحية او تتبعت علامات الجودة او معاييرها! ومن ينصت لفشلة المعلمين ويصدق مايقولون ، ومن يرضى بفشلة الاطباء ويدفع لهم أجور تشخيصهم ، ومن يستأجر فشلة المهندسين ومن ينتخب فشلة السياسيين والفاسدين! لو لا الاغبياء
كما ارى ان الحماقة هي غباء ولكنه ثابت مستمر ولانهائي، غير مرتبط بنقص المعرفة او بعارض مؤقت و غير ناتج عن التغييب العقلي والتجهيل الذي تتبعه الانظمة الشوفينية لإنتاج مجتمعات غبية ، بل هو امر خلقي وفطري وولادي و ذاتي فردي. وكان ابن الجوزي رحمه الله يرى أن “الحماقة غريزة”، وهذا ما أيده علم النفس الحديث، فالأحمق برأي فرويد يفتقر إلى “الأنا العليا”، ولا ينتابه أي شعور بالخجل من شهواته الحسية، ورغباته المنفلتة” والحقيقة ان راي فرويد عجيب ، لان الامور الحسية كلها متعلقة بالعقل فما يخجل منه احد لان عقله يميزه انه مخجل قد لايخجل منه آخر يظن ان مايفعله امر طبيعي ، و لو كان غبيا او جاهلا لتعلم واقلع و لكن الاحمق لايتعلم.
و الحقيقة ان الجاحظ العظيم اخطأ في وضع المراة مع الحمقى على الدوام و منها في كتابه (اخبار الحمقى والنساء)، فتصرفات المراة التي تغيض الرجال الاذكياء و التي تهدم البيوت احيانا و تمرض الزوج هي ليست تحت “مسمى الحماقة” بل نوع آخر من صور فساد العقل وضعفه ناتج من اختلاف التكوين الخلقي الفسيولوجي لايد لها به ولايختلف من مراة الى اخرى بل عام في جنس النساء و ليس كالفوارق بين الرجال ، ذلك هو الشعور العام لديها بوجوب اثبات الذات او الالتزام بجانب الندية والمساواة يجعلها تسخر امكاناتها في جوانب معينة وتركز عقلها في عواطف معينة تبغي ملاحقتها وتأمينها لنفسيتها وأمانها ومستقبلها ما ينتج خمول العقل عن الجوانب الاخرى في الحياة ويظهر و كأنها قاصرة عن الذكاء ، ولذلك اغلب من تركن هذه العواطف وراء ظهورهن لسبب او لآخر تراهن و قد نافسن الرجال في قدراتهم الذهنية او المواهبية وبعضهن تفوق، و انما قصد الجاحظ عموم المرأة ، و راي الملحدين الاوربيين الاوائل ايضا ومنهم صاحب نظرية التطور دارون واتباعه والفيلسوف الكاتب غوته الالماني والفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر بوضع المراة “بمرتبة ادنى من الرجل واعلى من الحيوان” كان تخبطا ولا سند علمي له.
و الان الى الهدف الجوهري من هذا المبحث ، فان الذي دفع بعض المفكرين او الفلاسفة والعلماء للتحامل على الحمقى دون الاغبياء انهم يئسوا من تطبيبهم او معالجتهم بالنظريات او الارشادات كما عجزوا عن تفكيك شفرات عقولهم والنفاذ اليها لترميمها كما يحدث مع الشخص الجاهل او الاهبل او ، يقول لقمان الحكيم: “نقل الصخور من مواضعها أيسر من تفهيم الاحمق الذي لايفهم”. فالأحمق ذو عقل كاسد، ورأي فاسد. و يرى شاعر العرب الأول ان محاولة تغييرهم او مخاطباهم نوع من البلاء:
“ومن البلية عذل من لايرعوي ،،،،،عن غيه وخطاب من لايفهم”
و عد الإمام علي “إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق”. وكانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبستهُ مع أحمق. يقول احد الكتاب مبالغا “واخشى مانخشاه ان تكون الحماقة والغباء جند من جنود الله يرسلها على من يكره [من لايحب] من عباده، الغرب والاستعمار يبحث عن هؤلاء الناس ليقلدوهم رقاب الناس”انتهى. وانا اؤيده في الشق الثاني ولكن لم يثبت شرعا ان الغباء او الحمق من جنود الله يعاقب بها عباده العاصين ، فكثير منهم اذكياء . وفي منظوؤ آخر فالفاسدون اقل حماقة ، انما السفهاء هم الحمقى، القران الكريم في سورة البقرة وصف الفاسدين بانهم “لايشعرون” و السفهاء بانهم “لايعلمون” . ولي في ذلك مقال كجزء من سلسلة (تحدي البلاغة).
للحماقة عديد الصور، أبرزها في سلوك الشخصية السيكوباتية، لوجود قواسم وخلفيات ونوازع ودوافع نفسية وذهنية مشتركة، “تتمثل بغياب الأنا العليا وعقد نقص وسوء تنشأة”*. والأحمق ليس الأبله، إنما المقصود به “عدو الحكمة ومخرب العلوم”*، منهم الذين وصفهم سليمان الحكيم: “الحمقى وحدهم هم الذين يحتقرون الحكمة ويبغضون العلم”
ذكر في الإنجيل عن النبي عيسى عليه السلام و “هو اله عندهم” «تأتيكم الظلمات من المكان الذي تنتظرون أن يخرج منه النور». فأكثر الحماقات تأتينا اليوم من متسلقي منابر الرأي ، وقد قيلت في امر الحمق والجهل والغباء والبله وتلك العلل العقلية والفروق بينها آراء نظرية اورد بعضها لتعضيد الرأي ،
ففي الفرق بين الحُمْق والجهل قيل :الفرق بينهما وجهان: أحدهما أنَّ الأَحْمَق هو الذي يتصوَّر الممتنع بصورة الممكن، والجاهل هو الذي لا يعرف الممتنع مِن الممكن. والوجه الثَّاني: أنَّ الأَحْمَق هو الذي يعرف الصَّواب ولا يعمل به، والجاهل هو الذي لا يعرف الصَّواب، ولو عرفه لعمل به”
وفي الفرق بين الحَمَاقَة والرَّقَاعَة ،ميزت العرب: “الرَّقَاعَة: حمْقٌ مع رِفْعَة وعلوِّ رتبة، ولا يقال للأحْمَق إذا كان وضيعًا رَقِيعًا، وإنَّما يقال ذلك للأحْمَق إذا كان سيِّدًا أو رئيسًا أو ذا مال وجاه”
وفي تمييز الفرق السَّفَه عن الطَّيش ،قالوا:السَّفَه نقيض الحكمة، ويستعار في الكلام القبيح، فيقال: سَفِه عليه إذا أسمعه القبيح، ويقال للجاهل: سَفِيهٌ. والطَّيش خِفَّةٌ معها خطأ في الفعل، وهو مِن قولك: طاش السَّهم. إذا خَفَّ فمضى فوق الهدف، فشُبِّه به الخفيف المفارق لصَواب الفِعْل”
وفي المقارنة بين الحُمْق والجنون قالوا:الحُمْق والتَّغفيل هو الغَلَط في الوسيلة والطَّريق إلى المطلوب، مع صحَّة المقصود، بخلاف الجنون، فإنَّه عبارة عن الخَلل في الوسيلة والمقصود جميعًا، فالأَحْمَق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطَّريق فاسد، ورويَّته في الطَّريق الوصَّال إلى الغرض غير صحيحة، والمجنون أصل إشارته فاسد، فهو يختار ما لا يُخْتار” و قد كان ابن عباس رضي الله عنه يصف الحماقة ضمنا في قوله يلوم بعض الرجال المتسرعين فيقول :”ينطلق أحدكم فيركب الأُحْمُوقة فيطلق امرأته ثلاثا”
أما عن وصف الحمق و الحمقى وتبيانهم بالخصوص فقد أثر من العرب احكام و اقوال نستأنس ببعض منها :فعن وهب بن منبِّه قال: “الأَحْمَق كالثَّوب الخَلق: إن رفأته مِن جانبٍ انخرق مِن جانبٍ آخر، مثل الفَخَّار المكسور، لا يُرَقَّع ولا يُشعب ولا يُعاد طينًا”. وسأل سليمان بن عبد الملك أبا حازم: مَن أَحْمَقُ النَّاس؟ قال أبو حازم: “مَن حطَّ في هوى رجل وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره” .
وكان شريح القاضي يقول: “لئن أزاول الأَحْمَق أحبُّ إليَّ مِن أن أزاول نصف الأَحْمَق، قيل: يا أبا أميَّة ومَن نصف الأَحْمَق؟ قال: الأَحْمَق المتعاق” . ويظن الحسن البصري الزاهد ان: “هجر الأَحْمَق قُرْبةً”. اما العاملي فيرى: “السُّكوت عن الأَحْمَق جوابه”وقال يحيى بن خالد البرمكي وهو من الاذكياء ان: “السَّفيه إذا تنسَّك تعاظم”. وأوصى الملك العربي المنذر بن ماء السَّماء ابنه النُّعمان بن المنذر، فقال: “سآمرك بما أمرني به أبي، وأنهاك عمَّا نهاني عنه: آمرك بالشُّح في عِرْضك، والانخِدَاع في مالك، وأنهاك عن ملاحاة الرِّجال وسيَّما الملوك، وعن ممازحة السُّفَهاء او مصاحبة الحمقى”. و ان الامام ابن الجوزي يرى ان : السَّفَه نباح الإنسان” و” ان الحَمْقى عباداتهم عادات” ويرشدنا الى صفات الأحمق بانه “كاسد العقل والرأي لا يحسن شيئًا” انتهى .
ومن صفات الاحمق التي رصدناها سرعة الانفعال والتدخل في شؤون الناس والخفة وسرعة الجواب من غير روية. و تقول العرب ان “الأحمق عدو نفسه لما يسبب لنفسه من الضرر” ومنهم من يعد “السَّفَه والحُمْق دليلا على سوء الخُلُق” ولكنهم اتفقوا جميعا على ان “السَّفَه والحُمْق كلاهما مِن خوارم المروءة”. وعن يسير بن عمرو -وكان قد أدرك الصَّحابة- قال: “اهجر الأَحْمَقَ؛ فليس للأَحْمَق خيرٌ مِن هجرانه” انتهى . و لله ابونا ، فكيف سنهجر و قد صرنا في زمان اكثره حمقى بثياب اذكياء .
ولكل ذلك فان الذي قسّم الرجال اربعة -في قول منسوب لكثيرين أرجح عليهم الامام علي- ، لاحظ ان احدهم قد يكون “يدري ولايعلم انه يدري” فوصفه بأنه “ناسٍ فذكروه”، فلو كان “يدري ويعلم انه يدري” لكان العالم” الذي عليكم “أن تتبعوه” ، وجعل الثالث “لا يدري ويعرف انه لايدري” فهذا امره سهل فهو جاهل و قادم اليكم بتواضع “لتعلموه” ، ولكن مصيبتنا في الذي “لا يدري ولا يقر و لايعرف ولا يعترف انه لايدري” ، فما علاجه برايكم ، وكيف سينثني ، قال : “هذا احمق فاتركوه”
ولذا فان جميع العلل والأسقام وجدت لها البشرية علاجا “الا الحماقة اعيت من يداويها”، فلا أنصح بالمحاولة.