يردد الكثير من المحبطين أن مساحة الحرية المتوفرة على مواقع التواصل هي مقصودة، وهي متنفس العراقيين لتفريغ شحنات الغضب والبغض الذي يكنوه لحكوماتهم وسياسييهم، الذين لم يجنوا منهم غير الطائفية والقتل والتفجيرات وسرقة الخيرات والثروات، وأن التغريدات والمنشورات وحتى المقالات في هذه المواقع كلها عبثية تذهب أدراج الرياح.. ويرى آخرون أن العزوف عن هذه المواقع هو أسلم لهم ولسلامتهم، أو الدخول لهذه المواقع ولكن بصفحات وهمية لا تمت لهم بأي صلة، مع عدم المشاركة في المواضيع والتعليقات حتى تجنب وضع الايكات خشية من الحكومة الديمقراطية وأذرعها الميليشياوية.. أخالف أصحاب هذا الرأي وذاك، وأقول لهم، لا الحكومة العراقية منفتحة هذا الانفتاح وتركت لكم الحبل على الغارب كي تتنفسوا الصعداء وتقولوا مايحلوا لكم، ولا هي أحكمت قبضتها عليكم وأنها لاتخشى منكم البتة.. بإختصار، الحكومة العراقية وأحزابها الحاكمة الفاسدة تخشى كل مواقع التواصل الإجتماعي. بهذه الكلمات ربما أبعث الأمل في نفوس المحبطين الذين أصابهم اليأس والقنوط من التغيير ومن جدوى منصات الانترنيت، دليل على ذلك من محيطنا العربي، فقبل أسابيع من الأن ألقت الشرطة السعودية القبض على عدد غير قليل من المغردين والمغردات، وأصبح إعتقالهم على لسان القاصي والداني، وبالأمس القريب أيضاً تناقلت وسائل الأعلام نبأ إعتقال السلطات المصرية للمدون المصري وائل عباس الذي يحظى بشعبية كبيرة عربيا ومصرياً، وساحة الأنظمة الأستبدادية مليئة بحوادث مشابهة من هذا النوع من الأعتقالات للناشطين والصحافيين والكُتاب، إذاً مايقلق الحكومات العربية وأنظمتها الفاسدة وأجهزتهم القمعية هي المقالات والتغريدات التويترية والفيسبوكية على حداً سواء، وكلٌ حسب فضائه المجتمعي. فلو كانت هذه التغريدات والتي كانت عدد أحرفها مائة وأربعين واصبحت مائتين وثمانين حرفاً، لاتشكل خطر وتهديد حقيقي على سلطة الحاكمين لما تأهبت هذه الأجهزة الأمنية والمخابراتية القمعية بالقبض على الكُتاب والمغردين والناشطين المؤثرين في هذه المواقع، وأودعتهم السجون والمعتقلات دون محاكمات قانونية، لا لشيء إلا لأنهم غردوا أو عبروا عن رأيهم من خلال منشور أو كتابة مقالة، بحجة التآمر وقلب النظام والتخابر والخيانة العظمى.!
السعودية ودول الخليج من أكثر المستخدمين للعصفور الصغير”تويتر” وأحد أهم أسلحتهم المستخدمة الأن في إدارة الأزمة الخليجية هي تويتر أيضاً للرد على الجارة قطر وقناتها الجزيرة، فهذا العصفور يستخدمه الجميع لتشويه سمعة الخصوم وشيطنتهم والإساءة لهم، وبالمقابل ترد قطر على السعودية ودول الحصار بقناتها الجزيرة وماتملك معها من قنوات اعلامية أخرى، هذا جانب من الاستغلال التويتري، والجانب الآخر له هو رصد المخالفين ومتابعة المعارضين لسياسات الحكومة وتوجهاتها التعسفية، وتصفيتهم بشتى الطرق والجسدية واحدة منها، ومن الاستخدامات الأخرى لهذه المنصة أيضاً هو صياغة رأي عام من خلال الجيوش الإلكترونية أو مايسمى “بالذباب الإلكتروني” فمعظم الدول الشرق الأوسطية الأن بدأت بتشكيل هذا الذباب، لأنها بارعة في قمع الحريات وتكميم الأفواه ومصادرة الرأي والحريات، وخير من يدافع عنها ويُجمل صورتها القبيحة هو هذا الذباب المرتزق..
والعراق أحد هذه الدول الذي أنشأء هذا الجيش الإلكتروني وكانت البدايات عام 2012 وإلى يومنا هذا، ومهمة هذا الجيش إختراق مواقع الخصوم، وترويج الإشاعات والأكاذيب وخلق بلبلة، وترويج لخلق رأي عام موالي للأحزاب الحاكمة والأجندات الخارجية، وبحسابات وهمية يعملون عليها ليل نهار، وعبر مختلف منصات الانترنيت، وينتدب لهذا الأمر مجموعة من المتخصصين والمتدربين من الصحافيين والاعلاميين ومحللين سياسيين، باعوا شرف المهنة والكلمة واصبحوا مرتزقة وأداة بيد الفاسدين، وبعض من هؤلاء معروفين على الساحة العراقية، وآخرين يستهدفون شريحة معينة مهمتهم كتابة الردود والتعليقات النابية المنافية للآداب والأخلاق، لإسكات، وتشويه سمعة المخالفين وتسقيطهم إعلامياً.!
في العراق وفي مرحلة من المراحل، دور هذه الجيوش أثمر وآتى أكله بشكل فاق التصور، أما الأن فبات عمل هذه الجيوش والمنظمات السرية مكشوف مفضوح، وفقد الكثير من دوره التخريبي لعقول الشباب، لأن هناك متطوعين من المثقفين والصحافيين والاعلاميين والناشطين المدنيين، دفعهم حب الوطن والرغبة في التغيير لقيادة هذه المهمة، فانبروا لها وكرسوا جُلَ وقتهم لتعرية الفساد وأهله وإماطة اللثام عنهم.
وقد يتسائل سائل ويقول الوضع في العراق مختلف ولاجدوى من الكلام والتغريدات والمقالات، فكل شيء على ماهو عليه ودون تغيير. لكن الحقيقة أن الوضع تغيير، ففي عام 2014 شهد العراق انتخابات عامة كانت الثالثة بعد سقوط النظام السابق، والأولى بعد إنسحاب الجيش الامريكي من العراق عام 2011، وكانت نسبة المشاركة كبيرة نسبياً وضمت شرائح واسعة من المجتمع العراقي، والنتائج والتوقعات جاءت حسب ماخُطط له، ولصالح الأحزاب الحاكمة المتحكمة في العباد والبلاد، وسُخر لذلك كل الإمكانات المتاحة ومن ضمنها الجيوش الالكترونية. ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية العامة عام 2018 ظهرت موجة ناقمة من المعارضة العراقية القوية داخل البلد وخارجه، وأخذت بزمام المبادرة واتخذت من مواقع التواصل الاجتماعي منصات لها لبلورة رأي عام من خلال ما يتم نشرهُ وكتابته، فكانت هذه المواقع بمثابة برلمانات شعبية، وكان لموقع الفيس بوك دور كبير ومؤثر لأن العراقيين أكثر أستخداماً له من بقية المواقع وشارك هذا الموقع أيضاً موقعي الواتساب وتويتر ولكن بدرجات أقل، فكان جُل هذه الدعوات تدعو لمقاطعة الانتخابات وعدم المشاركة فيها لأسباب معروفة للجميع، تدين هذه الحكومات والأحزاب الفاسدة، هذه الدعوات نجحت في حراكها المدني السلمي بعيداً عن سلطة الحكومة وأجهزتها الأمنية والحزبية، مما سبب حرج كبيراً للحكومة والاحزاب السياسية أمام الرأي العام العالمي والمحلي، وفشلت الجيوش الالكترونية المدفوعة الثمن في ثني المقاطعون عن المقاطعة، مما حدا بالحكومة لإتخاذ مسار أخر لإنجاح الانتخابات ومهزلتها ألا وهو خيار التزوير وأوغلت فيه هذه المرة بشكل فاضح ومثير للجدل، هذا الخيار المعوج لم يكن بعيداً عن الانتخابات السابقة إلا إنها كانت تحت غطاء المشاركة الواسعة في السنوات السابقة، واسلوب المقاطعة وفكرتها كانت أحد أسباب فضح التزوير الذي ساد انتخابات عام 2018 فنسبة المشاركة كانت قليلة جداً والنتائج كانت غير متوقعة ومشكوك فيها نتيجة التلاعب والتزوير القصة معروفة للجميع، مما حدا بممثل الأمم المتحدة في العراق يان كوبيتش في كلمة له خلال إحاطته لمجلس الأمن الدولي بالقول إن الانتخابات في العراق شابها التزوير والترهيب، دون الإشارة إلى طبيعة عمليات التزوير وأسماء تلك الجماعات المسلحة المشاركة في ترهيب الناخبين، وهذه المرة الأولى التي تصل لأروقة الأمم المتحدة صدى التزوير والتلاعب في الانتخابات العراقية، وهذا بحد ذاتة يشكل منعطف خطير على شرعية هذه الحكومات التي حكمت العراق طيلة هذه الفترة، ويضع علامات استفهام كثيرة وعميقة لدى المراقبين الدولين، وعلى مستقبل الديمقراطية والعملية السياسية في العراق..
بعد الانتخابات تداولت مواقع التواصل عدة مواضيع أثارت جدلاً واسعاً في الرأي العام العراقي وردود أفعال متفاوتة أحرجت الحكومة العراقية، نذكر منها على سبيل المثال إنقطاع الكهرباء في شهر رمضان، وتشغيل تركيا لسد إليسو وإنخفاض منسوب نهر دجلة من جراء ذلك، وإحراق صناديق الاقتراع للمفوضية في مخازن تابعة لوزارة التجارة، هذه الفضائح المتوالية وغيرها تم تداوله في مواقع التواصل، وردت الحكومة عليها سريعاً ورسمياً وعلى أعلى المستويات. وقد يقول قائل إن هذه الأزمات مفتعلة ويراد منها إشغال الشارع العراقي عن النتائج الحقيقة للأنتخابات والتزوير الذي شابها وما إلى ذلك، قد يكون هذا الكلام صائباً إلى حداً ما، ولكنها في النهاية تُسيئ للحكومة أكثر مما تنفعها، وخاصة إذا تحول الموضوع إلى جدل وقضية رأي عام وأثار جهات دولية، عندها تكون النتائج وخيمة وكارثية تأتي على سمعة الحكومة العراقية في المحافل الدولية وتفقدها الكثير من المصداقية والشرعية، ولاننسى الثورات العربية التي اطاحت بالدكتاتوريات وبدأت من هذه المنصات إلا أن قدرها المشؤوم كان لها بالمرصاد، بسبب التدخلات الخارجية وسرقة هذه الثورات من قبل الارهابيين والاحزاب الاسلامية الطامحة للسلطة وبأي ثمن كان.!
يكفي أن تعلموا أن الحكومة هذه المرة جادة في إيجاد الحلول، ولكن بطريقة ترقيعية وملتوية، نعم أقول (ملتوية) وليست حقيقية وجذرية!! وذلك لتفاقم المشكلة بينها وبين الشعب، والانتخابات الاخيرة كشفت حجم الهوة، وهذه النية من الحكومة في إيجاد الحل للأزمات التي تعصف بالبلد ليس حبا بالوطن وخدمة للشعب وإنما خوفاً على مصالحها الحزبية والشخصية!! ومتى يكون الحل حقيقياً وجذرياً، يكون عندما يكون هناك ضغط جماهيري وإرادة قوية، ووعي كامل لرصد اداء الحكومة وفضحها أمام الرأي العام، وهذه مهمة الجميع بالطرق السلمية المدنية، ويجب أن تستمر وتأخذ حيزها وموقعها ووقتها عند كل إنسان عراقي ووطني نزيه، وفي كافة مواقع التواصل ومنصات الانترنيت، وكلما كان الموضوع الذي يتم تداوله مؤثراً ولاذعاً زاد انتشاره ودوره السياسي، فهو يأرق الحكومة والاحزاب الحاكمة، ويشكل مصدر قلق وإزعاج لها، ويعتبر وسيلة ضغط كبيرة عليها، خاصة إذا ما تم اختيار وعرض وإثارة مواضيع حساسة مدعومة بأدلة عقلية منطقية، أو أدلة ثبوتية تقطع الشك باليقين، ومصاغة بشكل يتوائم مع مستجدات المرحلة الآنية، فلهذا لا تقنطوا ولا تيأسوا من روح الله، فثمن الكلمة باهض، والحرية والتغيير بحاجة إلى الصبر والوقت..
فلغة المصلحين هو القلم والكلمة والفكر.. ولغة الفاسدين والارهابيين هو القتل والرصاص والموت..!!