يتساءل الشباب فيما بينهم عن جيل الطيبين وربما هذا السؤال يكون باشمئزاز ومن باب السخرية في بعض الأحيان ..وماذا كان يأكل هذا الجيل ومن هم ؟
هل هو جيل الأميين الذي لا يستطيع أغلبهم القراءة والكتابة ؟
ام انهم فقراء القرى والمدن الذي لم يشبعوا بطونهم من الفقر وأحيانا من باب الحياء ..
أليس اليوم افضل من الامس من ناحية العلم والتكنولوجيا والبيوت الحديثة والسيارات الفارهة والقنوات الفضائية الكثيرة والمنوعة ببرامجها المختلفة…
الم يكن التلفزيون ممنوع الا قناة واحدة أو قناتين فقط وجميعها تغلق في وقت محدد ..
الم يكن الموبايل غير موجود ولا يعرفون الاتصالات الى عبر الهاتف الارضي …..
فأين هم جيل الطيبين ؟؟؟؟؟
نعم أيها الشباب أيها الجيل الجديد من حقكم أن تتساءلوا عن الماضي وحياة ابائكم وحياة اجدادكم وتاريخهم وحياتهم ..وانتم تعيشون حياة العصرنة والتكنولوجيا الحديثة بأنواعها المختلفة …
في الماضي كان في البيت وأقصد بيوت المدينة فقط الهاتف الارضي وكان الاقتراب منه ممنوع وبعض أرقامه محظورة وخاصة رقم الصفر وكان غير مسموح استخدامه الا للوالدين فقط وإذا رن جرس الهاتف تسمع اصواتهم وبصوت عالي واوامر صادرة بالأمر من بعيد لا أحد يرد فربما سوف يكون رجل غريب على الخط يتصل وهذا مخالف لمفهوم الأخلاق والحياء وكان اقتراب البنات من الهاتف فيه نوع من الحياء والجواب على الهاتف يشبه خروج البنات الى الشارع بدون الحجاب وغطاء الرأس ….
في الماضي كان التلفزيون في القرية والمدينة فيه قناتين فقط ولكنهما تكفيان لإيصال اخبار البلد والعالم الى الأسرة وكانت اغلب العوائل لا تملك سوى تلفزيون واحد فقط وهناك برامج خاصة لكل فئة في العائلة فالأطفال يشاهدون برامج الصغار في التلفزيون مثل ((افتح يا سمسم والكابتن ماجد وزينه والسندباد ونحول)) وكل هذه البرامج للأطفال كانت تقدم بعد العصر إلى قبل المغرب يودع الاطفال بعدها التلفزيون مستعدين لاستقبال الليل والنوم المبكر والجلوس في الصباح الباكر…
أما الشباب والكبار فكانت هناك برامج مميزة مثل برنامج العلم للجميع. والرياضة في اسبوع او حلقة من مسلسل عراقي او عربي .وكلها برامج أسبوعية وكان فلم الاسبوع يقدم في يوم الجمعة عصراً…أما نشرة الأخبار فتقدم يومياً عند الساعة الثامنة والعاشرة مساءً…
وقبل أن يدخل التلفزيون في البيوت كان الراديو هو البديل وكان اغلب الناس يسمعون الاخبار العالمية طازجة من اذاعة بغداد او صوت الجماهير او اذاعة مونتي كارلو أو هنا لندن .
وكان اغلب أهالي ريف الموصل ينتظرون يوم في الاسبوع ليستمتعوا بتراثهم الاصيل من إذاعة بغداد وبرنامج ركن البادية ولدقائق معدودة يشعر المستمع بسعادة لا توصف وهو يسمع ((الملا ضيف الجبوري وسلطان احمد)) وغيرهم من مطربي الربابة المشهورين في حينها .. .
كان الأب عملاق زمانه وشخصيته تكفي لكلام واحد لكل افراد الاسرة..
كان كبيرا بنظر الجميع واي نظرة من عينيه تخرس الجميع …واما ضحكته فكانت تطلق فرحاً وأعيادا في البيوت.. وعندما يسمعون صوت خطواته القادمة إلى غرفة جلوس العائلة من الصباح تكفي لأن يستيقظ الجميع من عميق السبات ويقوم الجميع بغسل وجوههم ثم وجبة الإفطار الموجودة ببساطتها والذهاب كلا الى عمله ..
في الماضي كانت المدرسة قريبة اوبعيدة نسير إليها كل صباح ونحن مْرتاحين ألأنفس ليوم دراسي جديد ونعود عند الظهيرة. ولم تكن كلمة (( آه أو اوف)) موجودة لأننا نعتبرها معيبة…
لم نحتاج إلى سيارات مكيفة ولم نخاف على أنفسنا ونحن نتجول في الحارات وفي براري القرى ولم نخاف الحر والبرد رغم قساوته في الماضي. وقلة الملابس وانعدام وسائل التدفئة والتبريد..
لم تكن هناك بكتريا وجراثيم على عربانة بيع الخضراوات ومحلات بيع اللحوم ولم نسمع بإنفلونزا الطيور أو الحمى النزفية او فايروس كورونا ولم نراها في أرضيات البيوت وفي سقوفها ولم نسمع عنها في إعلانات الجرائد والتلفزيون ولم نحتاج الى سائل معقم ندهن فيه ايدينا ووجوهنا كل ساعتين لكننا لم نمرض في حينها ولم نعرف الضغط والكوليسترول وأمراض السكر وتصلب الشرايين في الماضي وانما عرفناها في عهدكم فقط ..
كانت للأم سلطة قوية جدا تستمد قوتها من الاب وللمعلم سلطة مطلقة تستمد من العلم.. وللمسطرة الخشبية الطويلة سلطة الضرب على ظهر اليدين… كنا نبلع ريقنا أمامها وهي تؤلمنا وتبكينا من الداخل لكن فوائدها كثيرة فخوفنا منها جعلنا نحفظ من القرآن جزء عمَّ وتبارك وجدول الضرب وأصول القراءة والكتابة والخط العربي ونحن لم نتعدى العاشرة من العمر. وعلمتنا اللغة الإنجليزية ونحن لم نعبر الثانية عشر من العمر. تعلمنا من المدرسة والمعلم وبمساعدة هذه المسطرة الخشبية الأخلاق والآداب وكيفية احترام الكبير والعطف على الصغير ..
كان في الماضي يبعث الجيران ابنهم الصغير ((حمودي وهو مصغر لمحمد اوأحمد)) يأتي فيطرقُ الباب ويقول: (أمي تسلم عليكِم وتقول عندكم بصلة. عدكم طماطيتين .عدكم بيضه . رغيف خبز) كل شيء مسموح طلبه من الاكل والماء البارد..
كنا إخوان مع جيران البيوت وحتى الحائط بيننا مشترك وكنا مشتركين بالجدر والجدار …
كان الحياء وماء الوجه لدى الرجال والنساء اكثر من مياه نهر دجلة والفرات وكانت الرجولة تقتل الطمع وكانت النساء تطبخ على بركة الرحمن.
كنا كل ما نأكله في البيوت من خضراوات وفواكه ولحوم هو إنتاج محلي ولم نسمع في المستورد في حينها….
كانت الحادية عشر مساءً توقيت لا يمكن تجاوزه فكل افراد العائلة في هذا الوقت جالسة في البيوت .
أما النساء ماكثات في المساء في البيوت وممنوع عليهن تجاوز الاعراف والتقاليد…والرجال لا يعرفون اي مكان مفتوحة بيبانه في هذا الوقت إلا المستشفى أو گراج النقل الى المحافظات الاخرى.والذي يسمى گراج بغداد..
كانت النيات السليمة بين الجيران وتبادل الزيارات ويطعم الجار جاره كل اكلة دسمة يطبخها فيأتي منها بطبق لذيذ تتذوقه معهم ..
الان تتبادلون الشكوك والظن السيء للأسف مع الجار .ويشم الجار رائحة طبيخ جاره فقط .
أما زلتم تسألون عن جيل الطيبين
جيل لم يأكل البيتزا صحيح ولكنه شبع مع الثريد حتى وإن كان ماء وبصل فقط ..
جيل شبع الكوليسترول من خلال دهن الحر ولكنه لم يستخدم مضادات ضد الدهون ..
جيل يعرف اين يجلس ومتى يتكلم ولايوجد عندهم شيء اسمه صديقة او صاحبة…
نعم إن الأنفس تغيرت وقد أغلقت ابصاركم حضارة العصرنة.. حضارةً ألبستكم أرقى أنواع الملابس. وركبتم افخر السيارات وسكنتم احسن القصور. ولكنكم اصبحتم عراة من كل القيم الإنسانية والأخلاق وصلة الرحم …
حضارة ابعدت الجار عن جاره.وافقدت الرجل حياءه .وحولت المرأة في اغلب العوائل الى سلعة رخيصة تخرج شبه عارية بأسم الثقافة والحرية ..
واصبحت الام في بعض البيوت تشبه الخادمة لا اكثر ولايسمع كلامها أحد والأب كحمالة الحطب يحتاجونه من أجل المصروف اليومي فقط .او رعاية الأطفال بغياب الأمهات .ولم يْحترم الاخ الكبير من قبل الاصغر..ولم يْعطف احد على الصغير…
.حضارة كارتونية جعلت البنت تخرج من التقاليد والأعراف وتتكلم بالهاتف النقال دون رادع وخوف …
حضارة مزيفة صنعتموها بإسم العلم وهي بعيدة من مفهومها العلمي . صنعتها القنوات الفضائية المنوعة لقتل صلة الأرحام وتفتيت المجتمعات والابتعاد عن الإنسانية ..
أما زلتم تسألون عن جيل الطيبين ..
لقد رحلوا ورحلت معهم طيبتهم ..
نعم انهم جيلاً سوف تشتاقون إليه…
أنه جيل الطيبين…