بعيدا عن كون حزب البعث يعد من الأحزاب القديمة بالمنطقة حيث يعود تأسيسه الى عام 1947 كما هو معروف، وبعيدا عن كونه حكم العراق لمرتين الأولى عام 1963 والثانية والأخيرة هي عام 1968 والتي حكم بها العراق قرابة 35 سنة لحين أحتلال أمريكا للعراق عام 2003 ، وبعيدا عن كل الأحداث والمجريات السياسة والتاريخية التي مرت عليه وعلى المنطقة بشكل عام، وبعيدا عن كل تاريخه النضالي كما يتغنى به البعثييون. أقول بعيدا عن كل ذلك، فأن حلم عودته للسلطة وحكم العراق كما يعتقد البعض وما يحلم به من تبقوا من البعثيين، هذا أصبح أمرا مستحيلا !، ليس على ضوء المستجدات والأحداث الجسام التي مرت بالعراق تحديدا من بعد سقوط النظام السابق والأحتلال الأمريكي للعراق فحسب، بل على ضوء الأحداث والمتغيرات الكثيرة التي جرت على المنطقة العربية من بعد أحداث الربيع العربي التي عصفت ببعض الأنظمة العربية والتي قلبتها رأسا على عقب وأنتهاء بركوب غالبية القيادات العربية قطار التطبيع مع أسرائيل والذهاب الى تل أبيب!، بلا خجل ولا حياء ضاربين تطلعات الجماهير العربية عرض الحائط!،وأخيرهم وليس آخرهم السودان التي أعلنت عن تطبيع علاقاتها مع أسرائيل. نعود الى صلب الموضوع فقد يتفقق معي البعض ولربما الكثيرين بأنه يمكن القول بأن حزب البعث أنتهى بموت عزت الدوري! ، والذي كان يعتبر أحد القيادات البارزة بالحزب، والذي كان يعتبره الكثير ممن تبقى من البعثيين الخيمة الأخيرة التي يمكن أن تجمعهم! ، لا سيما أذا علمنا بأن الأحزاب الشمولية على أختلاف توجهاتها وخاصة في الوطن العربي ومنها حزب البعث تؤمن من حيث تدري أو لا تدري برمزية القيادة لها وبغياب هذه الرمزية سرعان ما ينهار الحزب وتدب فيه الخلافات والصراعات والتكتلات. فبعد موت عزت الدوري الذي أصبح هو الأمين العام للحزب بعد أعدام صدام حسين، والذي قاد المقاومة ضد الأمريكان، وكان يظهر بين فترات متباعدة للتأكيد على وجود حزب البعث وأستمرارية نضاله!، فيظهر له أحيانا تسجيل صوتي فقط، وأحيانا بالصوت والصورة في ذكرى تأسيس الحزب مثلا أو ذكرى تأسيس الجيش العراقي، أو أية مناسبة أخرى تستوجب ظهوره. فهو كان بنظر البقية الباقية من البعثين الرمز القيادي لهم!، رغم عدم أمتلاكه وأفتقاره الى الكاريزما القيادية شكلا ومضمونا وفكرا وثقافة وأداء ومنطقا وحضورا!. من جانب آخر أن أغلب القيادات الأخرى المهمة للحزب أن كانوا مدنيين أو عسكريين أو ما يطلق عليهم مجموعة ال (55)، والتي أدرج الأمريكان صورهم على ورق القمار!، حسب التسلسل والأهمية وهم من قيادات الخط الأول للحزب وقسم منهم من أعضاء القيادة القطرية والقومية ، أو من أعضاء المكتب العسكري للحزب، فغالبيتهم لازالوا في السجن والقسم منهم ماتوا في السجن. أذا يبرز هنا السؤال: من بقى من قيادات الحزب التي يمكنها أن تقود النضال السري للحزب؟، لا سيما أذا تذكرنا جيدا بأن قراية (30) بعثي من قادة الرعيل الأول للحزب ومن المؤسسين ومن منظري الحزب قد تم أعدامهم وتصفيتهم من قيل صدام حسين بعيد أستلامه للسلطة عام 1979 بالحادثة التي سميت (بمجزرة قاعة الخلد) وأسبابها المثيرة للجدل لحد الآن!. حيث خسر الحزب خيرة قياداته المناضلة والمؤمنة بفكر الحزب والتي لم تكن موافقة أصلا على أستلام صدام للسلطة!، حيث كانوا يرون بأنه أخذها بالقوة والمكر من الرئيس الراحل (أحمد حسن البكر)، في قصة يعرفها ويتداولها غالبية العراقيين!.نعود هنا مرة أخرى الى الرمزية القيادية في الأحزاب الشمولية ومنها حزب البعث، فصدام حسين بعد أن صفى وقضى على قيادات الحزب وكل الرفاق الذين عاصروه وحتى من كسبوه للحزب! بالغدر تارة وبالتآمر تارة أخرى وبالأغتيال أحيانا وتلفيق التهم على هذا وذاك وبشتى الطرق والأساليب الأخرى، خلا له الطريق وأصبح سالكا أمامه تماما وخاصة بعد وفاة الرئيس ( أحمد حسن البكر) الذي كان يسمونه البعثيين بالأب القائد وكذلك موت (ميشيل عفلق) مؤسس الحزب فأصبح صدام حسين هو القائد الأوحد والقائد الرمز وهو الأول وهو الآخر!، حيث أختزل الحزب بكل تاريخه ليضعه في جيبه من الألف الى الياء ، حتى وأصبح كأنه هو مؤسس الحزب!، (وصار البعث هو صدام وصدام هو البعث)!. وهذه ليست جديدة على القادة والزعامات العربية منذ فجر التاريخ حيث قال عنهم المؤرخ والفيلسوف العربي (بن خلدون) ( بأن آفة العرب الرئاسة)!. نأتي الى موضوع القيادات والكوادر الوسطى للحزب وما آل أليه مصيرهم، من بعد الأحتلال الأمريكي للعراق، فقد حاولت هذه القيادات أن تنفذ بجلودها فهرب الكثير منهم خارج العراق ، قسم منهم هرب وأستقر في الأقطار العربية المجاورة وقسم آخر هرب وتخفى في بعض الدول الغربية وغير حتى أسمه!، خوفا من الملاحقة القانونية من الأمريكان أو من الحكومات التي قادت العراق من بعد سقوط النظام السابق والتي أنتقمت من البعثيين شر أنتقام!. أما من خانه حظه وتعذر عليه الهروب خارج العراق من تلك الكوادر أوممن كانوا في مناصب وظيفية عليا في الجيش أو وزارات الدولة ودوائرها فقد تم ملاحقتهم وتصفيتهم. (فبأعدام صدام وموت عزت الدوري وأعدام برزان وموت عدي وقصي وأعدام طه ياسين رمضان وعلي حسن المجيد، وهروب بقية الكوادر الحزبية كما أسلفنا خارج العراق) ، نطرح السؤال التالي : أية قيادات بعثية بارزة بقت لتقود الحزب في ظل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة التي تمر بها المنطقة العربية بل التي يمر بها العالم؟ لا سيما وأن كل من ذكرناهم يعتبرون هم قيادات الحزب وكوادره وسر قوته وبقاءه في السلطة لقرابة 35 عام!. وكما ذكرت آنفا أن الأحزاب الشمولية عندما يموت قائدها ومؤسسيها ورموزها البارزة سرعان ما تتعرض الى الأنهيار والتبعثر والأنشقاق والتكتلات والتآمر بعضهم على بعض، وحزب البعث ليس بعيد عن ذلك!، فتاريخ الحزب مليء بالأنشقاقات والتصفيات والمؤامرات، وقد بدا التكتل والصراع واضحا بعد موت عزت الدوري بين من تبقى من القيادات على قلتهم حيث لا يعدون على أصابع اليد وهم غير معروفين للشارع العراقي أصلا على من يقود الحزب من بعد وفاة عزت الدوري؟. من جانب آخر أن تداعيات الأحتلال الأمريكي للعراق وتمزق النسيج الأجتماعي العراق وما أثاره الأمريكان من فتن وحروب داخلية وتشجيعهم للفساد للعراق ، كل هذه خلقت حالة من اليأس والتعب والملل!، لدى من بقي من البعثيين ناهيك عن الخوف الذي لازال يلازم من بقي منهم فدب اليأس لدى الكثير منهم بل صاروا على يقين تام بأن موضوع النضال من جديد لم يعد يجدي نفعا ولا أمل فيه!، فالأمور تغيرت وتبدلت كثيرا وغابت القيادات البعثية التي كانت تحمل النفس الطويل للنضال والمقاومة، ناهيك عن موت منظري الحزب الحقيقيين من أمثال (منيف الرزاز، وشبلي العيسمي، وألياس فرح وغيرهم). من جانب آخر أن الشارع العراقي صار على يقين تام بأن تجربة الأحزاب السياسية بالعراق أيا كانت هي تجربة فاشلة فلم تبني العراق بقدر ما دمرته وأضاعته!. فأصبح الحزب لدى الكثير من البعثيين وحتى في ذاكرة العراقيين مجرد فكر وذكريات ومواقف!، وكأن لسان حالهم يقول ( لكل زمان دولة ورجال، فزمان البعث قد ولى وأنتهى الى لا رجعة)!. وهنا لا بد من الأشارة بأن البعض من بقي من البعثيين قد أحتمى بعشيرته وبمذهبه الطائفي! للخلاص من العقاب وهو يخاف أن يقول حتى مع نفسه بأنه كان في يوم ما بعثيا. بل أن الشارع العراقي وعبر لقاءات أجرتها الفضائيات مع الكثير من المواطنين تحدثوا عن بعثيين كانوا بالأمس ينامون حتى بالبدلة الزيتوني!، التي أشتهر بلبسها البعثيين، وبعد سقوط النظام السابق سرعان ما حرقوها ولبسوا العمامة ومسكوا السبحة وملئت أصابعهم المحابس!، وهؤلاء هم الأنتهازيون والوصوليون الذين تجدهم في كل زمان ومكان في الأحزاب وفي الدوائر وفي كل مكان. ولنفترض جدلا أن البعثيين لا زالوا يناضلون ويحلمون بالعودة للحكم للمرة الثالثة!؟، فالأمريكان المحتلين للعراق والمسيطرين عليه فعليا هم الوحيدين القادرين على أعادتهم لأستلام السلطة بالعراق!، وهذه حقيقة يعيها حتى أبسط الناس مثلما يعرفها البعثيين أنفسهم، وهذه من سابع وعاشر المستحيلات كما يقال، مهما بلغت المصالح السياسية والتوافقات الدولية؟!، لأن الأمريكان أسقطوا من حساباتهم موضوع عودة البعث لحكم العراق ثالثة!. ثم كيف يوافق البعثيين على عودتهم للحكم عن طريق الأمريكان!، وهم من أسقطوهم بالأمس وأنهوا الحزب وأعدموا كل قياداته وزجوا بالبقية بالسجون، ولم يكتفوا بذلك بل أصدروا قانون الأجتثاث المعمول به لحد الآن في كل دوائر الدولة ووزارتها مدنية كانت أم عسكرية، بحق كل من أنتسب للحزب حتى ولو كان بدرجة مؤيد!. ثم كبف يقبل البعثيين بذلك، والذكريات المريرة لتجربة الحكم البعثي للعراق عام 1963 لازالت عالقة في أذهان الكثير من العراقيين وحتى البعثيين منهم وصدى مقولة القيادي البعثي البارز الراحل (علي صالح السعدي) عن أنقلاب 1963 ( جئنا بقطار أمريكي!) لازالت تمثل نقطة سوداء معيبة في تاريخ الحزب الذي حاول تجاوزها وتناسيها ولكنها ظلت باقية لأنها كانت الحقيقة!، ولأن الرئيس الأمريكي الراحل ( جون كندي) هو من أكد ذلك حينما قال (لو لم ينجح أنقلاب 1963 لكنا قد حرقنا بغداد !) فأنقلاب 1963 كان بدعم أمريكي واضح! ولا يمكن نكران ذلك (راجع كتاب مقايضة بغداد برلين/ للكاتب نجاح محمود). نكمل موضوع الأفتراض بعودة البعثيين الى الحكم عن طريق الأمريكان!، فأن حدث مثل هذا الأفتراض فأن العار سيلحق بالبعثيين أبد الدهر كما لحق بالشيوعيين الحاليين!!، الذين سقطوا بنظر الشارع العراقي لأنهم جاءوا مع الأمريكان في أكبر تناقض فكري وأيديولوجي (وسنكتب عن ذلك في مقال قادم أن شاء الله). فأذا يفتخرالبعثيين الآن بشيء على أعدائهم التقليديين الشيوعيين!، وكأن لسان حالهم بقول لهم بأن (الأمريكان هم من أسقطونا، الأمريكان الذين هم عنوان للشر والخراب والدمار والغدر والخداع وموت الشعوب وهم رأس الشيطان في هذا العالم والذين هم من دمروا العراق، فنحن البعثيين أحسن وأكثر شرفا نضاليا منكم لأنكم أيها الشيوعيون رضيتم أن تعملوا تحت مضلة الأمريكان وموافقتهم وهذا أكبر عار عليكم وعلى كل تاريخكم السياسي منذ عام 1934 ولحين الأحتلال الأمريكي للعراق في 2003). جانب آخر في موضوع نهاية حزب البعث!، هو أن الأمريكان وبريطانيا والغرب عامة لم يسمحوا بعودة الأحزاب الشمولية للمنطقة مثلما سمحوا بذلك بداية القرن الماضي القرن العشرين ، حيث أقتضت المصالح والسياسات الدولية السماح لنشوء وتأسيس الأحزاب السياسية، فالوضع السياسي الأقليمي والعربي والدولي والعالمي والتغييرات التي حدثت على الخارطة السياسية العالمية بشكل عام، في الوقت الحاضر وتفرد أمريكا بالسيطرة على مقدرات العالم الأقتصادية والسياسية كلها بعد أنهيار الأتحاد السوفيتي السابق نهاية تسعينات القرن الماضي، وفشل كل الأحزاب في الوطن العربي التي تاسست وأنشأت بداية القرن الماضي العلمانية منها والأسلامية في النهوض بالواقع العربي وتقدم الأمة العربية، حيث ترى هذه الشعوب وتحديدا الشعب العراقي، بأن وجود الأحزاب السياسية هي من كانت وراء واقعها المرير الذي تعيشه الآن، لا سيما عندما يعقدون مقارنة بسيطة بين دول الخليج التي بخلوا نظامها السياسي من وجود أحزاب وأنعكاس ذلك على رفاهية المواطن ومعيشته وبين بقية الدول العربية التي لم ترى من الأحزاب السياسية غير الصراعات والأحقاد والتصفيات والأنقلابات. ونستمر في موضوع الأفتراض الذي هو قريب من الخيال! ونسأل: عن أي شيء سيناضل الحزب؟ وأي شعار سيرفع؟ ( أمة عربية واحدة ، ذات رسالة خالدة) (وحدة وحربة وأشتراكية)، فلا أعتقد أن هذه الشعارات والأهداف ظلت لها أية قيمة تذكر!، فالأمة العربية تمزقت وتشرذمت وتتصارع فيما بينها وغالبيتها أرتمت بأحضان أمريكا والغرب وأعترفت بقناعة بأسرائيل!. فعن أية أمة عربية سيناضل البعثيين وعن أية رسالة خالدة يأملون ، وعن أية وحدة وحرية وأشتراكية سينادون، والعالم كله صار رأسماليا غربيا ، فحتى الصين التي تعتبر هي من بقايا الفكر الشيوعي الأشتراكي الذي غزى العالم منتصف القرن الماضي دمجت بين الأشتراكية والرأسمالية وحققت بذلك قفزات نوعية كبيرة. أخيرا أرى أن ظهور حزب البعث عام 1947 أملته الظروف السياسية والدولية آنذاك ونشوءه مع الحزب الشيوعي في نفس الفترة تقريبا كان جزء من صراع الحرب الباردة بين الأتحاد السوفيتي السابق وبين أمريكا الذي بدأ من بعد أنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 فكان لنشوءه ظروف محلية وعربية وأقليمية ودولية كما كان وراء نشوءه في المنطقة بعدا قوميا عربيا مقصودا! قاده الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر ليمتد الى باقي الوطن العربي، وليقف بالضد من الحزب الشيوعي العراقي الذي كان أوسع وأكثر وأقدم أنتشارا في الوطن العربي من حزب البعث. فصورة هذا المشهد السياسي والأجتماعي والفكري والقومي والثقافي بكل تفاصيلها قد تغيرت بل وحتى أنتهت، وأنتهت معها الأحزاب القومية والشيوعية وستنتهي معها بقية الأحزاب في المنطقة التي ظهرت أخيرا بسبب المستجدات والمتغيرات الدولية بالمنطقة. أخيرا نقول: أن حزب البعث بموت عزت الدوري انتهى نهائيا من الناحية العملية، ولكنه سيبقى ضمن التاريخ السياسي للمنطقة هو والحزب الشيوعي وأية أحزاب أخرى تقرأها الأجيال اللاحقة ضمن دروس التاريخ!.