23 ديسمبر، 2024 1:51 ص

هل أنا مواطن مدني ؟

هل أنا مواطن مدني ؟

شاعت في الاونة الأخيرة خطابات وكتابات تسخر من مفهوم المدنية وتعتبره دخيلاً على المجتمع ،وذهب البعض الى إتهام دعاة المدنية بانهم يريدون نشر الكفر والرذيلة وإشاعة الفسق حسب مفهوم احد قادة حزب الدعوة – عامر الكفيشي – ، والسؤال الذي يجب ان نطرحه في هذه المرحلة ونحن نرى الكثير من الأحزاب الدينية تحاول ان تنزع جلدها وتستبدله بجلد جديد مكتوب عليه عبارة مدني .. من هو الانسان المدني ؟
بداية علينا ان نعرف كلمة ” مدني ” كما جاءت على لسان فلاسفة التنوير وتعني الحر ، وهي مشتقة من كلمة رومانية تشير الى الإنسان الذي يسلك سلوك اهل المدينة ويقول إيمانويل كانط في كتابه ” ما هو التنوير ” ان : ” المواطن المدني المستنير في المجتمع المدني ، هو الذي يتحلى بالجراة على استخدام العقل المستقل ذاتيا ، المبرأ من انحيازات عرقية او طائفية او دينية او طبقية .. الخ ، فهذه هويات خاصة طائفية جزئية .وإنما المواطن المدني عقل مستقل وهوية مدنية ”
وهنا نجد كانط يوحد بين المواطن المدني والذات المبرأة من كل انحيازات جزئية سواء كانت طائفية او عرقية ، والتي يصفها بالذات المحصنة او الذات المدنية .. ربما هذا هو اشمل تعريف للمواطن المدني ، وهو التعريف الذي وضع القواعد الاساسية للثقافة المدنية والمواطنة المدنية .. فالمواطن المدني حسب تعريف الفيلسوف الفرنسي ديدرو في موسوعته ، هو الذي لايتكلم بلسان طائفة او طبقة او عقيدة ، بل بلسان المجتمع العام المتحرر من الالتزامات والانحيازات الجزئية الطبقية ، ولهذا يكون حديثه عن الجميع وللجميع ، من منطلق الهوية المدنية ..هوية المرء كعضو في مجتمع فعال وانساني .
في مقابل تعريف كانط للانسان المدني ، نجد الفيلسوف البريطاني توماس بين الذي عاش في نفس العصر الذي عاش فيه كانط – ولد كانط سنة 1724 وولد توماس بين سنة 1737 – يحدد في كتابه الشهير ” حقوق الانسان ” طبيعة المجتمع المدني ، وهو في رايه المجتمع الذي :” يزدهر بازدهار الفضائل المدنية : التعاون ، حب الانسان ، الروح الجماعية ، النشاط الطوعي ، المساواة ، العدالة ، التعالي على الانحيازات ” ويذهب توماس بين ، الى ان المجتمع المدني انما يحدد المساحة الاخلاقية بين السلطة والمواطن ، ومفهوم المجتمع المدني هو الساحة التي تضم مؤسسات طوعية حرة تتوسط بين الدولة والفرد .
وقد حاول فلاسفة التنوير من جون لوك وروسو وكانط وبنتام وفولتير وستيوارت ميل ، رسم طريق حديث لبناء مجتمع متماسك متحرر من الانحيازات الطائفية والعرقية والدينية ، ومتلاحم في وحدة حضارية ووطنية ، نجد روسو ينادي بضرورة العودة الى الطبيعة البشرية في جوهرها ، في ظل سلطة ديمقراطية وليدة اقتراع حر .. ولهذا يضع ستيورات ميل ، شرعية السلطة في المجتمع المدني رهن مواطنين احرار متساوين يختارون بملء ارادتهم الحرة ومسؤوليته الواعية ، النظام الحاكم ، شرط ان يكونوا متعالين بحكم تعليمهم وتثقيفهم على الانحيازات الطبقية او الدينية او العرقية .. ويذهب فولتير الى القول ان المجتمع غير المدني هو المجتمع الذي يحكم ، اما بسلطة الدين او بسلطة الدولة المستبدة او بسلطة العرق او الطائفة او العائلة .. ولهذا نجده مجتمع غير حر تكون فيه المؤسسات التعليمية والسياسية والاعلامية رهن صاحب السلطة او صاحب السطوة الدينية .
اذن المجتمع المدني هو مجتمع ديمقراطي في التعليم والثقافة والسياسة وفي شرعية الحكم ، وفي مشروعية حقوق المواطنين باعتبار ان الناس احرارمتساوون
وقد شغلت مقهوم المدنية والسلطة الكثير من فلاسفة الفكر الاسلامي الذين تعرضوا للاضطهاد والقتل وحرق الكتب لانهم نادوا بضرورة تاسيس دولة تستمد شرعيتها من الناس وليس من الحكام ، نجد مقكرا مثل معبد بن عبد الله الجهني يقف في وجه القدرية السياسية الدينية، التي أصر عليها خلفاء بني امية وحلفاؤهم. إذ شجب الجهني بحدة استبداد الحكم القائم في دمشق، وفكرة استناده إلى إرادة الله. وعملية الخلط بين الدولة والدين ، الامر الذي دفع عبد الملك بن مروان إلى اعتقاله وإعدامه في دمشق عام 699م.
وعلينا ان ندرك جديا ان المجتمع المدني ليس ضد الدين ، بل هو مجتمع يتسامح مع المعتقدات والعبادات مادامت لا تتدخل في ادارة الدولة ، فهو مجتمع ضد تسلط رجال الدين وليس ضد الدين كفكرة وعقيدة ، وهو ضد تحقيق المصالح الشخصية والفئوية باسم الدين ، فرجل الدين بشر تحكمه احيانا مصالحه وانحيازاته الشخصية . ولهذا نجد في المجتمعات المدنية وخصوصا في الغرب كيف تتمتع الأديان بحريتها ، بدليل ان معظم رجال الدين الذين هربوا من مجتمعاتهم ” المؤمنة ” في الشرق ، يعيشون برفاهية واحترام في الغرب ” الكافر ” الذي يشتمونه من على منابرهم .
تسود المجتمع المدني ثقافة خلاقة وفعالة للمواطن، وهي ثقافة تُلزم الدولة بمعاملة جميع المواطنين باعتبارهم احرار متساوين ، حيث ان شرعية السلطة هي رهن ارادة المواطن الحر .
والمواطن في المجتمع المدني تصوغه ثقافة سياسية تدعم الفضائل المدنية مثل التسامح ازاء اختلاف الرأي والعقيدة ، وتحكيم العقل ومصالح المجتمع والايمان بمسؤولية وحق الآخرين الذين هم احرار عن افعالهم ، ورفض ومنع كامل لأي امتيازات او انحيازات لمنصب او عقيدة .
وتبني الثقافة المدنية منظومة جديدة عن المواطنة والمثل العليا للمجتمع الحر ، ويتجلى ذلك في احترام معايير المواطنة والحرية . ان احدى مهام الدولة في المجتمع المدني توفير مواد لتحفيز المواطنين على تعزيز ثقافة الانتماء الاصيل للمجتمع .ذلك لان المواطنين لايستطيعون العيش في ظل مواطنة لايفهمونها ، او لاتتوفر معايير وفرص لمصداقيتها ، او مستمدة من مُثل واطر معرفية تقليدية فقدت موضوعيتها واغتربت عن الواقع الحياتي للناس ، وثمة روابط متبادلة داعمة بين معايير الثقافة المدنية من جهة ، وبين التعليم والأعلام والممارسات الحياتية على صعيد الافراد وسياسة الدولة من ناحية اخرى . ولهذا تصبح ثقافة التجديد والتطوير هي ثقافة المجتمع المستقر المرفه ، ويتحول المواطن الى فعالية وطنية نشطه في سياق حضاري جديد يواكب مقتضيات العصر الذي نعيش فيه ، لا العصور التي عاشها اجدادنا .
الصورة لداعيكم وهو يحاول ان يتفلسف مع الفرنسي ليوتار وكتابه الممتع لماذا نتفلسف ؟ وهو هديه ثمينة من ياسر عدنان ، تضاف الى هداياه الكثيرة.