في كل زمان ومكان تقدم الأمم نماذج يخلدها التاريخ، تعدل مسار الأمة، وتنقذها من الانحدار في الهاوية، ومما لا شك فيه، فإن الامام الحسين (ع) يعد نموذجاً لكل الأمم في مقارعة طغيان الدولة، وجور سلاطينها، ولا أبالغ إذا قلت: إن نهضته (عليه السلام) اختزلت تاريخ الصراع المستمر بين الاستعباد والتحرر، وتخليص الانسان من ذل الانسان.
ولهذه النهضة آثار شكلت مظهرها وجوهرها اللذان أسّسا هوية المجتمع الحسيني، دون التقيد بحدود الزمان والمكان.
أولاً: مظهر النهضة الحسينية:
يتجسد مظهر هذه النهضة بالطقوس المنتظمة، المتمثلة بالمجالس الحسينية، ومراسم العزاء وزيارة الأربعين وغيرها، وهي التي تحفظ هوية المجتمع الحسيني الحقيقي، بما فيها من شحنات روحية ترسخ الملحمة الحسينية في الذهن والجسد. ومن خلال ذلك تتم تنشئة الأجيال، وتمكنهم من التعبير عن مناهضة الظلم والاستعباد.
ولولا تلك الطقوس، فإن مظاهر النهضة الحسينية قد تنكفئ شيئاً فشيئاً. أذن، استمرارها مهم لإحياء نهضة الحسين (ع)، ولكن الأهم من استمرارها الحفاظ على عقلانيتها التي بدأت تتعرض للتشويه، لا سيما عندما انفجرت ممارسة الطقوس الحسينية بعد سقوط النظام البائد 2003م، وتحولت الزيارة الأربعينية إلى زيارة مليونية، بدأ البعض يتسابق لابتداع ممارسات هي إساءة للطقوس، مثل التطيين وتقبيل أقدام الزائرين وغيرها من ممارسات تحط من شأن المجتمع الحسيني، وتوحي بضعفه واستكانتة! وهنا يتوجب على قادة الرأي في مجتمع الحسين (ع) أن يعملوا على تنقية المنتج الحسيني من شوائب الخرافة والوهم؛ فهذه الطقوس المهذبة كالأسوار التي تحمي النهضة الحسينية، وتحفظ هيبتها، وتلم العشق الحسيني داخل هذا السور.
لكن.. هل كان هدف الحسين (ع) من نهضته أن يمارس الناس الطقوس العاشورائية، ويمشون إليه، ويتبادلون الأدوار في تقديم الخدمات وبذل العطاء؟
إن الاكتفاء بهذا الجانب هو اغتيال للعقل، فليس من الضروري أن يكون الارتباط العاطفي أولوية في القضية الحسينية، بل فيها أشياء أهم بكثير من العاطفة والعشق؛ فالطريقة التي نرى فيها الحسين (ع)، ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن عليه السلام يجلب إلى عقولنا سوى البكاء وإظهار المظلومية، فهذا يعني أن قدراً كبيراً من الروح المأزومة والملامة تتدفق إلى داخلنا، أما إذا رأينا الحسين مفعماً بالحرية والكرامة، فإننا نكون كذلك.
فلا بد إذن من توجيه البوصلة صوب الأهداف التي أرادها الامام الحسين (ع)، والتي تكمن في جوهر نهضته.
ثانياً: جوهر النهضة الحسينية:
لا يستطيع أحد نفي ما عليه اليوم وضع المجتمع الحسيني من تردٍ ونكوص وتراجع، فالأحداث تجري وتجور علينا، والناس غارقة في هموم البحث عن الخبز، نبحث عن حياة جديرة بالحياة، الموت صار شاغلنا الأكبر، والفرد منا يموت قبل الأوان، وصار الوعي إثماً، والمعرفة خطيئة، والرأي العام مغيباً، وجعلتنا اللامبالاة والانزواء والفرقة نتقبل تراكم الانتهاكات في حياتنا الرديئة، مما أدى إلى تطبيع الاستعباد فينا.
بينما الرؤية الحسينية قائمة على رفض الظلم مطلقا؛ فالقبول به يعني القبول بالاستعباد، حيث قال (ع) لمحمد بن الحنفية: (يا أخي والله لو لم يكن ملجأ، ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فالبيعة تعني الخضوع وإعطاء الشرعية للظالم).
إزاء هذا الانحراف الخطير في حياة المجتمع الحسيني، العقل يسأل: هل قدم الحسين (ع) نفسه قرباناً حتى يكون بلا مقابل؟ أو ليكتفي بلقب سيد الشهداء؟ هل دفع الحسين (ع) رأسه ثمناً في سبيل الحرية، لنثابر على العزاء فقط؟ إنه لأثم نرتكبه تجاه السماء والحسين (ع) والمنطق! وكأننا استعنّا بالظل لنرسم أبعاد الصورة الحسينية!
كيف نلتصق بالحسين الثائر، ونسمح أن يتحكم بمصائرنا شلة من اللصوص الخونة، يتسترون بالدين، حتى استولوا على الحكم ونهب ثروات البلد بفسادهم السياسي والإداري والمالي، ووضعوا الشعب الحسيني في قائمة الشعوب المهانة، التي لا قيمة لها بين الدول؟
متى نصلح أوضاعنا المتردّية، لتطوف القضية الحسينية وثمارها في أرجاء العالم؟ الحسين (ع) أعطانا درساً عظيماً في الحرية والكرامة، فهل أخذنا منه ما يمنحنا الكرامة؟