إن جميعَ شعوب العالم التي تتصف بالحيوية، والقوة، والعزة، والكرامة، والإباء، والشمم، وتحب الحرية، وتعشق السيادة على أرضها.. تأبى، وترفض رفضاً قاطعاً؛ أن يحكمها مستبدٌ؛ ظالمٌ؛ غَشُومٌ؛ متكبرٌ؛ متجبرٌ.
وإذا هاجمها عدو خارجي؛ يريد أن يحتل أرضها؛ استنفرت كل قواها للدفاع عن أهلها؛ وعرضها؛ وأموالها؛ ووقفت كلها كالبنيان المرصوص؛ للتصدي له؛ ومنعه من أن يحتل شبراً واحداً من ترابها.
مواصفات الشعب الحي
وهذه هي صفةُ الشعبِ الحيِ، الأبيَّ – سواءً كان يؤمن بعقيدة إيمانية، أو عقيدة كفرية – الذي يتشبث بأرضه؛ ويدافع عنها بكل ما يملك؛ ولو بأظافره. ولا يهرب من الميدان، ولو سقط عليه مليون طن من المتفجرات. لأنها معركة مصيرية، إما أن يكون هذا الشعب الحي، أو لا يكون. إما أن يعيش على أرضه عزيزاً، كريماً، أو يموت عزيزاً كريماً. كما قال الشاعر المتنبي:
عِشْ عزيزاً أوْ مُتْ وَأنتَ كَرِيمٌ …… بَينَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ
وأما الذين يفرون من المعركة بالملايين، ويسيحون في الأرض، فيستجدي بعضهم اللقمة، وكسرة الخبز، أو بعضهم؛ قد يملكون المال الوفير؛ فيهربون بأموالهم؛ ليعيشوا حياة البذخ؛ والنعيم؛ مع الذل؛ والهوان؛ والتهديد؛ بالطرد في كل آن وحين، ويتركون أهلهم، وأقاربهم، وبلدهم، تحت سلطة الاحتلال، ليذيقهم الهوان، والذل، والصغار، ويعيث في الأرض فساداً.
أولئك ليسوا من الشعوب الحية، الحريصة على عزتها، وكرامتها. أولئك فقط يُهمهم السلامة بجلدهم، ولو تعرضوا إلى الذل، والهوان، وأكلوا الطعام مغموساً بالذل، والهوان؛ فيستكينون، ويرضخون.
فهؤلاء مثلهم كمثل الذي قال فيه الشاعر: دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها…. واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
الفيتناميون تشبثوا بالأرض ولم يفروا
ولو راجعنا تاريخ الشعوب التي تعرضت للغزو، والاحتلال، وعلى سبيل المثال: الفيتناميون الذين احتلت أمريكا الطاغية، المستبدة، أرضهم في أواسط القرن الماضي.
حيث احتلت بالذات القسم الجنوبي من فيتنام، ومن ثَمَّ أخذت طائراتها الجبارة؛ تلقي بحممها على القسم الشمالي، الذي رفض هذا الاحتلال الغاشم، وأبى أن يَذل أو يُهان، وأبى إلا أن يقاومها بكل ما يملك من إمكانيات؛ بكل بسالة؛ وجرأة؛ وشجاعة.
وتحمل الشعب الفيتنامي الشمالي، القتل، والقصف، والجوع، والعطش. وعاش بين الكهوف، والمغارات، في الجبال. وأبى أن يفر، أو يهرب من المعركة، أو أن يلتجئ إلى البلدان المجاورة القريبة، أو البعيدة.
بل صمد صموداً أسطورياً وبطولياً، مما أجبر في النهاية، على أن يُرغم أمريكا على الخروج من فيتنام، ذليلة، صاغرة، مهانة، تجر أذيال الخيبة، والخسران، وتفقد حوالي الستين ألفاً من جنودها. وانتصر الشعب الفيتنامي الضعيف، المسكين، الفقير على أقوى دولة في العالم، وهي أمريكا.
الأفغانيون صمدوا في مواجهة الأعداء
والمثال الثاني هو: أفغانستان! الذي تعرض في ثمانينات القرن الماضي، إلى الغزو، والاحتلال السوفياتي. فاستنفر الشعب قواه كلها، لمحاربته، ومقاومته.
وبالرغم من أن بعض الأفغانيين من النساء، والأطفال، والشيوخ، والمستضعفين الذي لا يملكون حيلة، ولا قوة، قد لجأوا إلى باكستان، وربما أيضاً إلى إيران، إلا أن الشباب، والرجال القادرين على حمل السلاح، أبوا أن يقعدوا مع الخوالف، ومع اللاجئين المستضعفين. وأبوا إلا أن يتشبثوا بالأرض، يدافعون عنها شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، ولا يغادرونها أبداً، ويتركون المحتل الغاصب، يسرح، ويمرح كما يشاء، ويعيش بأمان وسلام.
وبقي الأفغانيون الشجعان الأبطال، يحاربون الاتحاد السوفياتي – وهو القوة الثانية الضاربة في العالم بعد أمريكا – قرابة العشر سنوات، حتى تمكنوا في النهاية من تحرير أرضهم، وإخراج المحتل ذليلاً، خائباً، خاسراً.
كما أدى هذا الانتصار العظيم للمجاهدين الأفغان؛ إلى تحطيم الاتحاد السوفياتي؛ وتفكيكه إلى دول عديدة؛ وتمزيقه؛ وتشتيته؛ وإزالته من الوجود الجغرافي، والسياسي.
وبعد عشر سنوات من التحرير، تعرض الأفغانيون مرة أخرى، إلى الغزو والاحتلال، من قبل أمريكا. فلم يضعفوا، ولم تلن لهم قناة، وجابهوا المحتل الجديد، بكل جرأة وبسالة، ولم يهربوا، ولم يفروا، ويلتجئوا إلى البلدان المجاورة، ويتركوا المحتلين ينعمون بخيرات البلاد، ويطيب لهم العيش، بأمان وراحة وسلام.
وبقوا عشرين سنة يجاهدون، ويكافحون، ويناضلون، ويحاربون، ويقاومون دون كلل، ولا ملل، حتى أرغموهم في النهاية، على الخروج أذلاء صاغرين.
وهكذا ينتصر الشعب الأبي؛ الذي يهمه أن يعيش كريماً؛ عزيزاً؛ أو أن يموت عزيزاً كريماً على أرضه، وهو يحمل سلاحه، ويحارب عدوه.
وإذا ما أردنا أن نُسقط تلك المشاهد الرائعة، الزاهية، من الجهاد، والحرب الضروس، والمقاومة العنيفة، والصمود البطولي، والتشبث بالأرض، وعدم الفرار من المعركة، على الشعب السوري نجد ما يلي:
في السنوات الأولى للثورة! أبلى بعض الشباب والرجال المخلصين، والصادقين، بلاءً حسناً في القتال، وقدموا أرواحهم الطاهرة، ودماءهم الزكية، فداءً في سبيل الله.
ولكن في السنوات التالية، خَلَفَ تلك الثلة الطيبة المستقيمة، خَلْفٌ أضاعوا الجهاد، وركضوا يتسابقون إلى اكتساب المغانم – من درهم ودينار، وجاه وسلطان – مما أدى إلى تراجع الجهاد، وتسليم الأراضي والسلاح للعدو بدون قتال، أو بقتال شكلي للتضليل والخداع.
ظهور فئة من السوريين، لا خَلاق لهم، وليس لديهم خُلُقٌ، ولا دين، ولا يعرفون أي معانٍ للعزة والكرامة، مع وجود القابلية التامة، لأن يكونوا عبيداً في خدمة المحتل الأجنبي، يطيعونه طاعة عمياء، ولو أمرهم أن يقاتلوا في أقصى الأرض، فيسمعون ويطيعون، ويفدونه بأرواحهم، ولو كان على حساب أهلهم، وأوطانهم.
كل ذلك لأجل دريهمات معدودة، يتلقونها منه، فيضحون بأرواحهم، ويبذلون دماءهم رخيصة فداء له.
والمأساة الكبرى، والطامة العظمى، هي: هروبُ حوالي سبعة ملايين سوري من سوريا، معظمُهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والخمسين سنة، والقادرون على حمل السلاح، ولديهم خبرة جيدة في استخدام السلاح، تلقوها أثناء خدمتهم الإلزامية في الجيش؛ ولجوؤهم إلى بلدان عديدة، منها القريب، ومنها البعيد، والعيش في مذلة، واستكانة، ومهانة، وفي قلق دائم، إن تغير نظام الحكم في بلد اللجوء، أن يتم طردهم شر طَرْدٍ.
كما حصل في السودان، عقب الانقلاب على نظام البشير، إذ تم التضييق عليهم، بل حتى تم سحب الجنسية من الذين حصلوا عليها، في عهد البشير، وكما يتم تهديدهم الآن بالطرد من قبل المعارضة في بلد آخر.
حينما يهرب هذا الكم الهائل، والعدد الكبير، الذي يعادل ثلث السكان تقريباً، من سوريا، ويفرون من الزحف، ومن مواجهة الأعداء، ويولون الأدبار، ويلجؤون إلى بلدان عديدة، بل وبعضهم يركب البحر، في ظروف بالغة الخطورة، معرضين أرواحهم للموت – وقد مات عددٌ غير قليل منهم في البحر – لأجل أن يصلوا إلى بلد أوروبي، ليس بينهم وبينه أي علاقة قربى، لا في الدم، ولا في الدين، ولا في اللغة، وإنما فقط لأجل كسب متاع الحياة الدنيا، وزينتها.
فعلى أي شيء يدل هذا السلوك الانهزامي؟!
إنه يدل! على أن هؤلاء الفُرَّار – إلا قليلاً منهم – لا يملكون أدنى مقومات العزة، والكرامة، والمروءة، والشهامة.
إنهم فقط يملكون صفة الأنانية، والفردية المقيتة. فلا يهمهم إلا النجاة بأنفسهم، ولتخرب سوريا، وليهلك أهلهم، وجيرانهم. المهم عندهم! أن ينجوا بجلدهم، ويمارسوا في بلد اللجوء، أي صنعة ولو كانت وضيعة أو حقيرة، ولو حصلوا من ورائها على نصف الأجرة الاعتيادية، مع المهانة والمذلة من صاحب العمل الذي يستغلهم أسوأ استغلال، فلا تفرق عندهم شيئاً.
ومما يُدمي الفؤاد، ويُفجر الحشا، ويُفتت الكبد، ويمزق نياط القلب؛ أن مئات من الضباط ذوي الرتب العالية، والذين انشقوا عن الجيش.. يجلسون في المخيمات، أو في غيرها بدون أي عمل يفيد الثورة، أو يعمل على تحرير الأرض.
ومما يُبكي! ويجعل المآقي تذرف دموعاً من الدم الأحمر القاني، أننا دعونا السوريين الذين يعتقدون بأنفسهم أنهم أحراراً، للانضمام إلى ( تجمع السوريين الأحرار ). واتصلنا ببعض الرموز الناشطة على الساحة الإعلامية، والسياسية، واعتقدنا أنهم أحراراً، لما يدندنون، ويلوكون بألسنتهم، وأحاديثهم، من كلمات الحرية والثورة، وعرضنا عليهم العمل في هذا المشروع، فرفضوا العمل، وآثروا أن يبقوا مع الخوالف، ومع تغريداتهم المضللة، والمخادعة، ومع فرحهم بآلاف الاعجابات التي يحصدونها، ويظنون أنها ستحرر سوريا.
وفي الختام! وللإجابة على السؤال المطروح في العنوان: يبدو – والله أعلم – مع عدم اليأس والقنوط ، أن الغالبية العظمى من السوريين – إلا قليلاً منهم – غير جادين في العمل لتحرير أرضهم، وينتظرون من الدول الكبرى أن تحررها، أو أن تنزل الملائكة من السماء فتحررها. وهذه كلها أحلام، وأوهام، لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع.
بل الأغرب من ذلك! أنه حتى ولو فرضاً جدلاً في الخيال، تم تحريرها، فإن أكثر من نصف اللاجئين، لا يرغبون، ولا يُحبون الرجوع إلى بلدهم – حسب استبيان صدر منذ فترة من الزمن – فقد طلقوا وطنهم بالثلاث، بلا رجعة.
28 ربيع الأول 1443