23 ديسمبر، 2024 9:04 ص

هــــــــــــانــــــــي

هــــــــــــانــــــــي

قصة قصيرة
       مرة ثانية خرج ” هاني ” بملابسه المعتادة وحيدآ  نحو الشارع الذي لاتفصله عن البيت سوى السّلمتين اللتين تكوّنان عتبة البيت الخارجية , وقد فشل هذا اليوم  في تنسيق ملابسه  , إذ زرر قميصه الازرق المخطط  على خلاف مواقع الأزرار , حتى أنه لم يترك الزر الذي يقع فوق تفاحة آدم مفتوحآ كما يفعل البعض , أما بنطاله الجينز الترابي المموه باللون الأسود المموج , فقد أحاطه بحبل من القنب البني جعله يتخلل حلقاته بعناية ولكن عقده بشكل غريب من الأمام تاركآ طرفي الحبل يتدليان بحرية أسفل بطنه   . وقف لعدة دقائق متكئآ على باب البيت المصنوع من الخشب الأحمر الجاوي الذي بدا في أحسن حال عن بقية أبواب البيوت الأخرى المجاورة التي تقع قبالة وحدة الأطفاء المحلية, وكان يكتنف عصر ذلك اليوم حركة رياح جنوبية رطبة قليلآ مع بزوغ باهت لأشعة الشمس . تحسس جسده النحيل وتبين ترتيب ملابسه بيده , ثم رمق قدميه الحافيتين فتذكر أنه نسي أرتداء جوريبه وحذائه الصندل الذي أشتراه له أبوه من أحذية دجلة التي تقع في منتصف سوق الهنود منذ شهر تقريبآ .
       دخل البيت وخرج منه مسرعآ وبيديه الجوربين والحذاء الصندل . وضع  قدميه في الصندل , وحشر الجوربين بين بطنه والحبل المحيط بها وهو ينظر بعينين مترقبتين الى ردود أفعال المارة , إلا أن أحدآ لم ينتبه اليه في الساعة السابعة والنصف صباحآ وذلك بسبب انحسار عدد السكان في منطقته في سنوات ما قبل حرب الثماني,كما وأن الأمر لايعني أحد آ .
       نظر ” هاني ” نحو السماء فلم ير مايسرّه  , إذ أن الشمس بدأت تزحف قليلآ نحو السمت  . أشبك كفيه وأحاط بهما رأسه , ثم أطلق ضحكة جوفاء عالية في الهواء ورأسه يتلوى يمينآ وشمالا , وعاد ثانية ليضع يديه أمامه في وضع يشبه من يمسك زمام فرس أو عربة خيول , ثم تهيأ للعدو .  ولكن قبل أن ينطلق , أنحنى يطوي حافتي بنطاله الجينز طويتين لكل طرف منهما , ثم أنتصب يعيد وضعه السابق , ثم أندفع فجأة الى الأمام راكضآ على أطراف أصابعه الأمامية ثم عاد ليستقر في ركضه على مساحة قدمه وهو يقلد أصوات وقع حوافرأطراف الفرس الخبب السريعة : طربك .. طربك .. طربك  الى جهة مجهولة   .
      قبل حلول المساء , يقول صاحب الدكان المجاور لبيت هاني , يعود “هاني” الى بيته بعد أنتهاء نوبته الثانية , وحينها يكون قد بلغ أشد الأرهاق , فيتصبب العرق من كل أنحاء جسده , فيغدو وجهه مثل قطعة خبز محروقة , فلا يرى منه غير ذلك العرق والزبد الذي يرغو على جانبي شفاهه والغبار الابيض يملأ شعر رأسه المجعّد ولايسمع منه سوى اللهاث وتقليد أصوات منبه السيارات المصحوبة بحركات يديه اللتين تشكلان اشارات لوقوف وسير لحركة سيارات وهمية  .  وقبل أن يدخل البيت , يرفع سماعة هاتفه الوهمية ليخبر من هو على الطرف الأخر من خط النداء قائلآ  : السيارات عادت الى موقعها بدون حادث , ثم يبدأ بنكث التراب من فوق رأسه وملآبسه رافعآ بين الفينة والأخرى  أبهام يده اليمنى نحو الأعلى للدلالة على أتمام المهمة التي قام بها اليوم  وسط أنظار أبناء محلته وهم يقفون أمامه في حيرة ودهشة وتعجب   .
    ذات يوم أنطلق “هاني” في نوبته الثانية, فعبر الشط بالعبارة الحكومية وأتجه نحو اليسارفي طريقه الى الشارع الذي يفصل بين بناية القنصلية وبناية دائرة الثقافة والارشاد التي تقع بمحاذاة بناية فندق جبهة النهر على نهر شط العرب , كان الطريق حينئذ ذا منفذ يتصل بشارع مواز لشارع الوطن من الجهة الخلفية ولكن أغلق هذ    ا المنفذ بسبب الحرب ,وأصبح الأمر غامضآ عليه , وحين أراد العودة لم يفلح ,فأشجار الكالبتوس العالية والخرنوب الكثيفة  كانت تشكل عائقآ لعودته  .لم يلحظ ذلك أحد من الناس , فتوقف عن العدو وهدأت حركاته وبدأ ينقل نظره من جهة الشرق نحو الغرب في ذهول , ولكن من دون جدوى  .فجلس فوق اوراق الأشجار المتساقطة على الارض وقام يحدث نفسه بحيرة : ترى أين رأيت هذا المكان ؟ ها.. لم أره .. , ثم نهض يركض , ثم عاد الى مكانه وهو يسعل حتى غدا وجهه مثل لحاء شجر قديم  . وفجأة سقط عليه حجر صغير . أنحنى ليمسك بالحجر ليتبينه , ثم سمع صوت امرأة تقول : تعال هنا …. تعال هنا … , نظر”هاني” من بين الاشجار فلمح شخوص رجل وامراة متقاربين في الطول وهما يتحاوران بصوت خفيض إذ يقول الرجل لها : هل أنت تحلمين ؟ ! أنا لاأسمع شيئآ مما تقولين . وضعت المرأة عباءتها فوق رأسها وأستدارت لتقول له : لقد سمعت سعالآ . ربما رآنا , ياويلي أنا قلت أن يوم السبت هو يوم مشؤوم ولكن لا أدري كيف جئت الى هنا .
    سمع هاني حديث المرأة وفكر مع نفسه : اذن أنا في حديقة أحد البيوت , ثم تناول هاتفه الوهمي وهتف يقول بصوت خفيض : ألو .. ألو لقد ضاع “هاني” في الطريق الى العشار , أرسلوا تعزيزات عاجلة . سمعت المرأة حديث هاني فظنت أنها الشرطة وأن أحد أفرادها ينادي بالجهاز اللآسلكي , فأسرعت نحو الشرشف ولملمت ماعليه من حاجيات وكوّرته على شكل صرّة ورفعته من فوق الأرض وهي تقول للرجل  : إن لم تسمع ما أسمع فهذا يعني أن تستعد للمفاجآت , فأنا ذاهبة ولا أريد أن أموت مثل دجاجة ضالة . أنا لا أظن أن أحدآ يتبعنا ولكنني أعتقد غير ذلك. أجاب الرجل . ماذا تعتقد ؟ قل لي أيها الأصم البارد؟ ها .. أنها .. الخطيئة , أو ربما الخوف الذي ولدته هذه الارض المملوءة بالاشجار في نفسك . رد عليها الرجل . كلا . قالت المرأة , ثم أنحنت تلتقط حجرآ لترميه . فتوقفت وهي تقول للرجل : هس .. هس .. هس  أعتقد أن الصوت أختفى . ضحك الرجل : أنت حقآ تذكرينني بالمناخ الريفي الذي يتواجد فيه الشيطان , وهو ربما يتجول الآن هنا وهناك وهذا شيء مرعب حقآ  . سكتت المرأة وتوارت خلف الأشجار , بينما وقف “هاني”محاولآ أن يلمحهما بوضوح من بين أغصان الاشجار وراح يحدث نفسه  : ربما هذه المرأة مجنونة ,ولكن هذا رجل دجال , سأنتظر فقد أقترفت ذنبآ لم أقترفه من قبل.. ها .. لا.. فلأتسلق واحدة من هذه الأشجار لآرى ماذا يجرى بينهما هناك  .
     حدق “هاني” الى أحدى أشجار الكالبتوس العالية ثم تراجع الى الوراء كمن يريد أن يستجمع قواه , أو يجد الطريقة المناسبة للتسلل بين أغصانها فحدث نفسه : آ .. هه .. أم.. أنه وقت جمع الأفكار..وبدأ يتشبث بالنتوءات البارزه من جذع الشجرة , ثم تناول غصنآ ليضع قدمه عليه وأندفع نحو آخر حتى أشرف على ساحة كبيرة فيها ممرات مهجورة للمشاة , فرأى رجلآ يرتدي بدلة جديدة وقبعة سوداء صغيرة فوق رأسه , طويل القامة ,تبدو علية سمة الخوف والسرعة في طريقة مشيه على أحد الممرات , ثم رأى أشجارآ أخرى ذات ظلال كثيفة أمامه فتوارى خلف الأغصان خوفآ من أن يراه الرجل وراح يحدث نفسه ثانية :انها حديقة القصر الكبير المهجورمنذ سنين  .. ولكن من هؤلاء  ؟!
     أنحدرت الشمس كثيرآ عن سمت الرأس فوضع يده فوق رأسه في حيرة من أمره وقد أشتدت الريح وتعالى الغبار في السماء ثم أردف قائلآ : آه .. مضت ساعة وأنا هنا لاأتكلم مع أحد وأصبحت عرضة للنمل والحشرات مثل جلد شاة مسلوخ تنبعث منه رائحة الموت , ثم تناول هاتفه الوهمي وهتف يقول بصوت مرعوب : جاء المحافظ .. جاء المحافظ .. أنزلوني تحت .. ماهذا  .. أنا “هاني” في هذا القصر المهجور مع صاحب القبعة السوداء والأشجار ذات الذباب والنمل والخنافس , فأنزلقت قدماه فجأة وسقط مثل كومة عش من القش فوق الأرض وبدأ يولول ويصرخ من ألالم  .
      سمع الرجل صراخآ مدويآ فجاء أتجاهه وأنحنى فوق جسد ملقى فوق الأرض فأطلق قهقهة عالية وهو يصيح : هـــــــــــااااني !! نعم  . رد عليه “هاني” بالم ونحيب . كيف تتسلق شجرة دون أن تربط حبلك هذا بأحد الأغصان ؟! علق الرجل بسخرية وأسترخاء واضعآ يديه على خاصرتيه . ثم خرجت المرأة من مخبئها مصدومة مما شاهدته وهي تقول : يا.. انه “هاني” يامسكين , ثم جاءت ومررت بيدها فوق رأسه ورددت: ياللمسكين , من أتى بك الى هنا : صمت “هاني”ثم قال : خطيئتكما  !