المتتبع لمجريات الحدث السياسي العراقي لا يجهده اكتشاف التعقيد الذي يلفه والناتج من التركيبة التي بنيت عليها العملية السياسية في العراق وهي توزيع الحصص والمناصب على اساس المكونات الطائفية ( شيعة – سنة ) والعرقية ( عرب – اكراد – تركمان ) وهذا بلا شك يبعد اي احتمال ولو كان صغيرا بإمكانية تكوين منظومة حكومية قائمة على اساس التكنوقراط المهني البعيد عن الذي سبق ذكره ..
فقبيل انتخابات نيسان ٢٠١٤ الجميع كان ينادي بالتغيير سواء على مستوى الوجوه او الاداء وان قبة البرلمان وسكة العملية السياسية لابد لها من تقويم الاعوجاج الذي اصابها على مدى دورتين برلمانيتين لن نظلمها اذا أطلقنا عليها السنوات العجاف التي كرست حكم المحاصصة المقيتة .. ولكن ما حدث بعد الانتخابات هو عودة ذات الوجوه القديمة مع تغيير طفيف لا يكاد يبين في بعضها من المنتمين للتيار المدني الذين لا يصمدون امام الكتل الحيتان داخل مجلس النواب العراقي الذي هيمن عليه ما يُعرف بالبيت الشيعي السياسي ممثلا بـ( التحالف الوطني ) والبيت السني السياسي ممثلا بـ( اتحاد القوى الوطنية ) اليوم ، وهذان التياران هم سبب بلاء العراق لما يحملانه من توجهات ورؤى مبنية على اساس الطائفة .
وبعد ان كثر الجدل حول منصب الرئاسات الثلاث ( رئاسة البرلمان – رئاسة الوزراء – رئاسة الجمهورية ) والتي يبدو ان الاكثر تعقيدا بينهم هو منصب رئاسة الوزراء كونه الاكثر تأثيرا في المشهد …
تمثلت الازمة اليوم بتمسك رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي بالمنصب امام رفض اغلب القوى لوجوده على رأس الهرم السياسي في العراق وهذا التمسك القى بظلال قاسية على بنية تحالف البيت الشيعي السياسي اضف الى ذلك حالة الاحتقان الشعبي والتدهور الامني الذي اصاب البلد في ظل مطالبات دولية بتنحيه واختيار شخصية اخرى تحظى بمقبولية الكتل السياسية بل حتى المرجعيات الدينية والتي من المفترض ان يخضع لها تيار المالكي ( حزب الدعوة الاسلامية ) ممثلة بالسيد السيستاني اشارت الى ضرورة وجود شخصية توافقية لما لذلك من اثر على تهدئة الاجواء وترطيبها .. وبرغم كل الاشارات والتلميحات والتصريحات بهذا الخصوص الا ان المالكي بقي متمسكا بموقفه الذي اشترط للتراجع عنه حسب التسريبات ان يقوم اسامة النجيفي بسحب ترشيحه لرئاسة البرلمان وبتدخل امريكي هذا ما حصل فعلا والجميع توقع ان يسحب المالكي ترشيحه بعد ذلك غير انه خرج بموقف اشد تمسكا من ذي قبل بالولاية الثالثة بذرائع التصدي للارهاب والوقوف بجانب القوات الامنية ومؤازرتها في الوقت الذي يغرق فيه البلد بوحل الارهاب وتخرج فيه محافظات عن سيطرة الحكومة بفعل التمرد الشعبي الذي انتشر كالنار في الهشيم علاوة على سوء العلاقات الدولية التي وصل لها العراق مع محيطه الاقليمي وهو ( المالكي ) لم يزل يتحدث عن الانجازات والمكاسب وكأنه يعيش في كوكب اخر !!!
ويستمر فتح الجبهات مع من تبقى من شركاء الامس فها هو يفتح نار تصريحاته ضد اقليم كردستان متهما اياه بإيواء الارهابيين من الداعشيين والبعثيين وغيرهم ونسي انه نفسه كان من ضمن الهاربين للاقليم عندما كان مطاردا مطلوبا لانتمائه لحزب الدعوة المحظور آنذاك وقيامه بالاشراف على عمليات عسكرية واستهداف عدد من المؤسسات الحكومية منها تفجير الجامعة المستنصرية عام 1980 وتفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 واستهداف وتفجير وزارة التخطيط عام 1982 ابان الحرب العراقية الايرانية وهذا تاريخ لا يمكن تجاهله او تجاوزه خاصة عندما يتكلم شخص كالمالكي عن محاربة الارهاب !!
هذا التخبط في التعاطي مع الازمة ويؤشر ازمة تراكمية طوال الفترة الماضية بين المركز والاقليم قد نشهد بعدها طلاقا بائنا لا عودة فيه اذا ما استقل الاقليم كما صرح بذلك رئيسه مسعود بارزاني.. وكانت اخر مراحل ذلك التخبط الذي يدل على هستيريا ومرض اسمه الكرسي لدى من يتغنى بالتبادل السلمي للسلطة ان سجل ائتلاف دولة القانون نفسه في المحكمة الاتحادية على انه الكتلة الاكبر ما شكل صدمة للتحالف الوطني واعتُبر انقلابا على حاضنة دولة القانون المتمثلة بالتحالف الوطني وزاد من علامات الاستفهام حول دور المحكمة الاتحادية بزعامة مدحت المحمود بكل ما حدث سابقا ويحدث اليوم بتطويع قرارات المحكمة وليّها بما يتماشى مع رغبات وتوجهات المالكي وكيف احكم الأخير قبضته على المحمود ، كما يدعم الاتهامات التي توجه للقضاء العراقي والتشكيك بنزاهته وانه قد تم تسييسه تبعا لما تشتهي سفن ائتلاف دولة القانون .. كل هذا الاصرار من دولة القانون على المالكي مرشحا للولاية الثالثة وعدم طرح بديل توافقي اخر يعيد الى الاذهان حالة اعادة صياغة نموذج القائد الضرورة بحلة جديدة وهو ما ينذر بعواقب كارثية على الوضع الحالي وربما الحالة الايجابية الوحيدة لهذا التعنت والاصرار من المالكي هو توحيد الكثير من صفوف المجتمع العراقي بعدما فرقته طريقة الحكم وادارته للبلاد بصورة ضربت وفتت النسيج المجتمعي العراقي فاصبح الجميع ينادي ” ارحل ” !!!
هذا الموقف المتشدد من المالكي يزيد من تعقيد المشهد و يعطينا انطباعا واضحا ان العامل الحاسم في المعادلة العراقية هو الصوت الخارجي وانه لن يكون بمقدور الكتل السياسية المنقسمة على نفسها الخروج من عنق الزجاجة دون املاءات الخارج نظرا لحالة انعدام الثقة بين الفرقاء واستناد كل طرف واستقوائه بجهة خارجية كما ينبغي للمرجعية الدينية الشيعية ان تضطلع بدورها وتضع النقاط على الحروف ويكون لها موقف واضح مما يحدث بعيدا عن الاشارات والتلميحات في اقل تقدير ما يتعلق بالكتل والاحزاب التي تزعم تبعيتها لتعلميات المرجعية في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها البلد وان يكون لها صوت تحقن به الدماء بدل فتاوى تجييش الشارع وعسكرة المجتمع واحتراب مكوناته ، برغم موقفي الشخصي الرافض لتدخل المؤسسة الدينية ولكن هذا واقع الحال فنحن نعيش في دولة دينية على استحياء ونعاني ازمات تعصف بالبلاد يصاحب اسم المالكي كل واحدة فيها ولن تزول الا بزواله !!!