18 ديسمبر، 2024 6:57 م

كان يجلس كل يوم بعد صلاة المغرب، يجمع آماله، وأحلامه، ودفاتره العتيقة، يخطو ببطء نحو مكانه المعهود الذي لا يزاحمه عليه غيره، ويفتح سجلاته، ويقرأ.

يطرب الحضور حيناً ، ويبكيهم أحياناً أخرى ..

يقص لهم سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم يتلاعب بالزمان كيفما يشاء، فيقرأ لهم قصة الشاطر حسن، وقيس وليلى، ثم يعرج على داحس والغبراء، ويخوض غمار معارك القادسية، وعين جالوت، وينعى لهم الخلافة، ويسرد لهم كيف أدخل العراق في دوامة الانقلابات..

قصص لا أول لها ولا آخر!

ومضى الزمان.. وشاخ هذا الإنسان قبل الأوان، ومرّ الخريف بدفاتره، وذابت ذاكرته في حمم الزمان، ولم يجد له اليوم شيئاً ليحيكه، بعد أن هزم وطحن في واقعنا اليوم!

الحكواتي اليوم ينهزم، لا لكبر سنه، وإنما لعظم ما يراه، وهول ما يشاهد، وشدة ما يسمع به!

يقول لهم.. إذ يطالبه القوم بأن يسترجع الأيام الخوالي، ماذا أحكي لكم ونحن وسط ألف ليلة وليلة من العذاب؟!

وفي الأرض ألف بركان وبركان من الغضب، وسيول من الظلم، وطوفان وجع؟!

لقد مزقت الجراحات دفاتره، وخدعه الخريف إذ أوهمه أنه الربيع، وصهرت الأوجاع ذاكرته، وألقت به في وديان الأسى، ولما أبحرت به الآمال نحو أرض الخلاص، تمزقت أشرعتها، وتحطمت مراكبها، وكاد أن يهلك مع ألاف المعذبين، ولم يصل إلى قرار.

هذا الألم الأبدي لا يكاد ينتهي، وهذا الجرح العميق لا أمل به بالشفاء .

الحكواتي ينهزم… في بغداد الخارجة كل حين من تحت الرماد، ودمشق الجريحة، وصنعاء المنكسرة، وبيروت الحزينة، والقاهرة الغارقة في الأوهام، وتونس السائرة نحو الضياع، وصحراء ليبيا التي قتلها العطش للأمان!