23 ديسمبر، 2024 11:47 ص

هزيمة الثقافة أم انتصار للمقاومة .. ؟

هزيمة الثقافة أم انتصار للمقاومة .. ؟

منذ أن غادرت القوات الاميركية العراق نهاية عام ٢٠١١ والبعض يردد مبتهجاعلى مسامعنا بأن “الاميركان قد خسروا معركتهم في العراق أمام صلابة المقاومة ” ! .
تبدو المعركة،لدى اصحاب هذا الرأي ــ بكل مايحمله من تبسيط وتسطيح لطبيعة الدور الذي لعبه الاميركان في العراق ـــ وكأنها ذات بعدعسكري لاغير ! .
مايؤكد خطآ هذا الاعتقاد،كل مؤشرات الواقع الذي بتنا نعيشه بكل قساوته ومرارته،بعد أن أبتلع الطعم الاميركي معظم العراقيين،وذلك عندما ازاحوا من قناعتهم،انتمائهم للوطن،ليحل بدلا عنه انتمائهم الفئوي  .
فالمعركة بوجهها الثقافي ـــ وليس العسكري ــ جوهر ستراتيجة المواجهة الاميركية مع المجتمع العراقي،من خلالها تم تفتيت ثوابته الانسانية والاخلاقية التي حصّنت وجوده واستمراره بكل تنوعه طيلة تاريخه،وكانت الثقافة بمفهومها واطارها الانساني العام،آخر جدار منيع يتخندق خلفه العراقيون عندما كانوا يواجهون المحن على مدى تاريخهم.
فالمعركة بدأت صفحتها الأولى مع بدء الحصار الدولي على العراق على اثر غزوه للكويت عام 1990،عندها بدأ العراق يفرغ  شيئا فشيئا ًمن العقول التي كانت تتنتج هويته الانسانية بكل روافدها وملامحها الثقافية،ولتنتكس متراجعة الى الخلف القيم الاخلاقية التي كانت تشكل اسسسا ثابتة يقف عليها المجتمع .
 ثلاثة عشر عاما من حصار دولي لم تشهده البشرية طيلة تاريخها تركت جروحا عميقة في بنية ونسيج العلاقات الاجتماعية،افرزت جيشا من العاطلين عن العمل والسراق والقتلة والانتهازية،مما مهد ارضية صالحة لشيوع مظاهر الرشوة والفساد الاداري في الدولة العراقية بشكل كبير لم يكن معهودا في منظومة الحياة الاجتماعية.
هذا الاجراء الذي وقفت  اميركا خلفه،لم يكن إلاّ مقدمة أولى للصفحة الثانية من المعركة عندما وطأت على ارض بغداد قدم أول جندي اميركي في 9/ 4 / 2003.
وعليه سيكون من الخطأ بمكان أنْ نصل في استناجتنا لطبيعة الصراع مع الوجود الاميركي في العراق مابين 2003 -2011 الى نتيجة لاتعكس حقيقته وجوهره،ولتُختَصَر بشكل مُبسَّط على انّها مواجهة مع مجاميع مسلحة كانت تظهر هنا وهناك  تحمل اسم المقاومة .
الأخطر في هذه المعركة لايكمن في المواجهة المسلحة،ولاعدد الضحايا الذين سقطوا ولا البيوت ولاالمنشأات التي تم تدميرها،إنما في المسار الثقافي لهذه المواجهة،وقد تكفل بهذه المهمة ساسة وقادة الاحزاب العراقية بكل انتماءاتهم الدينية والقومية،أولئك الذين كانوا يعارضون نظام حزب البعث،وجاءوا مع قوات الاحتلال الاميركي،وكانوا على درجة عالية من التبعية والضعف والخضوع لكل ماتمليه عليهم الإدارة الاميركية من أوامر وتعليمات.فتولوا نيابة عنها المضي في مسار استكمال تدمير ماتبقى من روابط وثوابت قيمية تجمعُ النسيج الاجتماعي العراقي.
كانت الخطوة الاولى في هذا المسار تفكيك مؤسسة الجيش العراقي،بما يشكله الجيش من ضمانة لوحدة العراق وامنه،ولتحل بدلا عنه ميليشيات ومجاميع طائفية مسلحة اشاعت الخوف والرعب والهلع في المجتمع،ثم تبع ذلك جملة من القوانين والقرارات،حُشرت في دستور البلاد الجديد،بموجبها تم تكريس الانقسام المجتمعي على اسس طائفية واثنية وقومية،وبتنا نسمع وفق ذلك مفردات جديدة مثل مفردة (المكوّنات) بات الساسة يرددونها بديلا عن مفردة الوطن،واصبح الشعب كذلك يرددها ورائهم مثل الببغاء،لتتحول يوما بعد آخر هذه المفردة الى قناعات وممارسات ومشاعر ومواقف،تمكنت من تقسيمه وتجزأته الى طوائف تتحصن في خنادق متقابلة وهي تكن العداء والكراهية لبعضها البعض .
لم نعد بعد هذا مع بعضنا البعض كما كنّا على فطرتنا،لم نعد إخوة،ولاأصدقاء ولازملاء،حتى أنّ الكثير منّا بات لايشعر بالألم ولاالتعاطف مع الضحايا ،عندما يجدهم يسقطون هنا وهناك،طالما لاينتمون الى مِلّتهِ ! .
بل ماعاد يتردد بعضنا  في أن يُجاهر علنا بالسخرية والاستهزاء بالمعتقدات الدينية لغيره،دون أن يراعي مشاعره ! وعلى العكس من ذلك،اصبحنا نراعي مشاعر اي ملة أجنبية تعيش بعيداً عنّا حتى لو كانت في اقصى الكرة الارضية – فقط من باب النكاية بأبناء وطننا ـ  وليس مهما إنْ كانت تعبدُ روث البقر أو تقدس زواج المرء من الكلاب ! .
فهل بعد هذا الخراب الذي اصاب ثقافتنا في عمقها الاجتماعي،يمكن للبعض ــ من دعاة المقاومة ــ أن يبقى يصدع رؤوسنا ليل نهار وهو يردد على مسامعنا بان الاميركان قد خسروا معركتهم في العراق ؟