بداية لا أخفى مشاعر الفرح جراء هزيمة أمريكا على يد حركة طالبان، الصغيرة في العدة والعتاد، قياسا بما تتوفر عليه قوات الاحتلال الامريكية من قدرات متفوقة معروفة للجميع، ناهيك عن دعم حلفائها الغربيين. ولا تقلل من هذه الفرحة طبيعة هذه الحركة، ذات الابعاد المتخلفة والظلامية والتكفيرية، والتي تتعاكس كليا مع توجهات كاتب هذه السطور ذات الطابع العلماني والديمقراطي والتقدمي والحضاري. خاصة وان هذه الهزيمة قد نسفت تماما كل الجهود التي بذلتها أمريكا، وعشرات المليارات التي صرفتها، لأقناع البشرية بانها القوة التي لا تقهر، وان على شعوب العالم الاستسلام للأمر الواقع، مهما عانت من سياسات هذه الدولة العدوانية. بمعنى اخر أكثر وضوحا فان كاتب هذه السطور، اذ يبتهج لهزيمة الامريكان لا يعني ذلك الوقوف بالضرورة الى جانب حركة طالبان، او الاصطفاف معها، لمجرد تمكنها من الحاق الهزيمة بالولايات المتحدة الامريكية.
هذه الهزيمة النكراء لا تداويها المكاسب التي حققتها أمريكا في مفاوضاتها مع حركة طالبان مقابل القبول بالهزيمة. بصرف النظر عن تواضع هذه المكاسب، او كبر حجمها. كما لا تضمد جراحها كلمات العزاء التي صدرت عن الرئيس الأمريكي من قبيل، “ان المصلحة القومية لبلاده كانت تتمحور بشكل أساسي حول منع استهداف الولايات المتحدة بهجمات إرهابية انطلاقاً من البلد الغارق في الحرب” او حصوله على التعهد بان لا تكون امارة طالبان موطنا للإرهابيين الذين يستهدفون امن الولايات المتحدة الامريكية” فبمجرد قبول أمريكا التفاوض مع طالبان التي صنفتها كحركة إرهابية يشكل بحد ذاته هزيمة منكرة. ناهيك عن السنين العديدة التي استغرقتها عملية التفاوض. حيث تشير، شاء احباب أمريكا ام أبو، الى الاعتراف بقوة طالبان في هذه المفاوضات. ومعلوم ان طول فترة التفاوض تدل على التكافؤ بين الأطراف المتفاوضة.
اما المحاولات التي يسعى اليها أصدقاء أمريكا، لتحويل هذه الهزيمة الى انتصار. فأمريكا ذاتها ومن خلفها حلفاؤها، قد قطعت الطريق عليهم جراء سيل جارف من الاعترافات. فعلي سبيل المثال، فان جو بادين نفسه قد قال في خطابه المتلفز ” لا يجب على القوات الأمريكية أن تقاتل وتموت في حرب رفضت القوات الأفغانية خوضها”. معلنا “أنّ الوقت حان للمغادرة من هذا البلد بعد 20 سنة من الحرب”. وحول انهيار الحكومة الأفغانية قال بايدن “الحقيقة هي أنّ هذا حدث أسرع بكثير من تقديراتنا”. وأضاف “أعطيناهم كلّ فرصة لتقرير مستقبلهم. لا يمكننا إعطاؤهم الإرادة للقتال من أجل مستقبلهم” وقال أيضا إنه، ” لا يطلب من قوات بلاده القتال بلا نهاية في حرب أهلية في بلد آخر”. اما الاعتراف الأكثر أهمية بالنسبة للهزيمة، فقد جاء في قوله ان لا خيار للقوات الأمريكية في أفغانستان سوى الانسحاب وأكد أنه “لن يورّث هذه الحرب” لخلفه. في حين طالب الرئيس السابق دونالد ترامب خلفه بايدن بالاستقالة باعتباره مسؤولا عن الهزيمة. في حين قال نائبه مايك بنس في مقال نشرته وول ستريت جورنال وبالحرف الواحد” ان الانسحاب يمثل اذلالا للسياسة الخارجية أكثر من أي شيء واجهته بلادنا منذ أزمة الرهائن في إيران”، وأضاف أن بادين انتهك صفقة كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قد أبرمتها مع طالبان.
اما بوش الابن فقد قال “اشعر انا وزوجتي لورا بحزن عميق عما جرى لنا في أفغانستان”. ولم يكن اقطاب الإدارة الامريكية بعيدين عما جرى، بدءا بوزير الدفاع ومرورا برئيس اركان الجيش وانتهاء برئيس الامن القومي، فقد كانت تصريحاتهم شبيهة بتصريحات رئيسهم. في حين تعاقب قادة الدول في الاتحاد الأوروبي في القاء اللوم على قرار بايدن بالانسحاب بهذه الطريقة المذلة. وكان أكثر هذه التصريحات تعبيرا عن الهزيمة، ما جاء على لسان زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتشل ماك ونيل. حيث قال ” ما نراه في أفغانستان كارثة مطلقة” وأضاف “انسحاب إدارة بادين سيخلف وصمة عار في جبين الولايات المتحدة الامريكية.
نعم لابد وان أمريكا كطرف في المفاوضات قد حققت مكاسب تصب لصالحها، سواء على المستوى الداخلي او على المستوى الإقليمي او الدولي، لكن هذه المكاسب الامريكية مهما كانت كبيرة، فأنها لا تعادل الخسائر التي تكبدتها أكبر قوة عسكرية في العالم، وانعكاس هذه الخسائر على حلفائها من الدول الاستعمارية. فعلى جانب حسابات القوة، فان أمريكا القوة الأعظم في التاريخ قد الحقت ضررا بالغا بمكانتها، حين طلبت المفاوضات مع حركة طالبان. وهذا ما لا يعد خيارا، خاصة لقوة احتلال بوزن الولايات المتحدة الامريكية، الا حين تعجز كليا عن الصمود بوجه خصمها، او لتجنب مزيد من الخسائر المادية والبشرية. بمعنى اخر فانه لا يوجد تفسير سوى الهزيمة، إذا وافقت دولة قوية التفاوض مع حركة إرهابية صغيرة، فكيف يكون الحال إذا كان الطرف المفاوض لهذه الحركة الصغيرة هي الولايات المتحدة التي تعتبر أكبر قوة عسكرية واقتصادية وإعلامية عرفها التاريخ؟
اما في الجانب السياسي، فان سلاح طالبان المتواضع الذي حقق هذا الانتصار، أعاد الثقة لشعوب العالم المضطهدة، ومنها الشعب العربي، وعلى وجه الخصوص الشعب العراقي، الذي مازال يرزح تحت الاحتلال الأمريكي. بل ان احباب أمريكا واقلامها المأجورة، ستكون مثارا للسخرية، من الان فصاعدا، ان استمرت في محاولات تسويق خرافة القوة التي لا تقهر. او إيجاد مبررات للهزيمة، من قبيل تبرير هزيمة أمريكا في فيتنام بالدعم الروسي والصيني. فطالبان في قتالها مع المحتل الأمريكي لم تلق أي دعم او عون خارجي. بالمقابل فان حالة الياس التي أوصلت الناس الى قناعة بان الانتصار على أمريكا مستحيلا، سيتم اجتثاثها بعد هذه الهزيمة المنكرة. بمعنى اخر فان قاعدة انتصار الشعوب قد عادت الى الواجهة تحت مقولة ثابتة مفادها، قدرة الشعوب على تحقيق الانتصار، مهما كانت صغيرة او ضعيفة، ضد اية قوة غاشمة، مهما علا شانها ومهما امتلكت من الة عسكرية عملاقة. بالمقابل فقد اثبتت هذه الواقعة قاعدة ثابتة أخرى، ان عملاء الاحتلال لا يقاتلون، حيث دخلت قوات طالبان الى العاصمة كابول دون ان تواجه إطلاق رصاصة واحدة من قبل الحكومة وجيشها الموالي للاحتلال. فقد هربت حكومة الخونة وجيشها هروبا مخزيا ومشينا، بمجرد علمهم بان قوات طالبان أصبحت قريبة من كابول. على الرغم من أن الولايات المتحدة أنفقت عليها مئات مليارات الدولارات طوال عشرين عاما. بل ان هذا الهروب يعني أيضا سقوط المشروع السياسي الأمريكي في أفغانستان، الذي دشنه حامد كرازاي في ديسمبر عام 2001 واستمر خمس سنوات، ليستبدل برئيس جديد وهو الرئيس المهزوم أشرف عبد الغني، الذي خرج للعالم بتصريحات تهدف لتبرير جبنه وضآلته من قبيل “إنه غادر بلاده لتجنيبها “إراقة الدماء” لأن “عددا كبيرا من المواطنين كانوا سيُقتلون والعاصمة كانت ستدمر لو بقي فيها”. وهذا ما يفسر رفض عملاء أمريكا واحبابها في العراق وبقية البلدان المحتلة تصديق ما جرى. فلجأوا لنظرية المؤامرة.
كل هذا الخزي والعار الذي لحق بأمريكا، ما كان له ان يحدث لولا قرار الحركة برفض الاستسلام للأمر الواقع، واللجوء بالمقابل الى السلاح ومواصلة القتال مهما طال الزمن وغلت التضحيات. الامر الذي اجبر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على طلب المفاوضات مع الحركة لتجنب هزيمة أخرى تضاف الى سلسلة الهزائم، التي تعرضت لها أمريكا في فيتنام ولبنان والصومال وأخيرا في أفغانستان. وكذلك الهزيمة النكراء التي تعرضت لها قوات الاحتلال على يد المقاومة العراقية في مدينة الفلوجة التي اشتهر اسمها في جميع ارجاء الدنيا.
ما حدث يحكي قصة الحروب التي تنتصر فيها الشعوب رغم ضعف إمكاناتها من حيث العدد والعتاد، ويهزم فيها المحتل مهما كان قويا ومتجبرا. والتاريخ قدم لنا نماذج كثيرة في هذا الخصوص. ففي التاريخ القديم هزمت جميع الامبراطوريات على يد الشعوب المحتلة، مثل الفينيقيين والإغريق والصليبيين. وفي التاريخ الوسيط هزمت الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الفرنسية، التي قادها نابليون لينتهي به المقام في المنفى. مثلما انتهت بعدها الإمبراطورية البريطانية، التي لا تغيب عنها الشمس لتنكفئ الى داخلها وتصبح ذيلا للإمبراطورية الامريكية، التي هي الأخرى هزمت في فيتنام والصومال ولبنان. ناهيك عن هزيمة الاسبان والبرتغاليين ومن بعدهم الالمان في عهد هتلر. وما حدث لا يدعو للاستغراب فحركة التاريخ تسير دوما في هذا الاتجاه. لان كل شعوب الأرض تسعى إلى الحرية والاستقلال واسترداد كرامتها الوطنية، بصرف النظر عن الحركات السياسية التي تقود عملية التحرير، سواء كانت حركة ظلامية مثل حركة طالبان او حركة وطنية مثل الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام. بمعنى اخر لا يمكن للدول الاستعمارية قمع الشعوب بالحديد والنار الى ما لا نهاية. خاصة في عصر حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فقد أصبحت هذه العناوين شعارات كونية تتبناها شعوب الأرض كافة
اذن من حق الشعوب التي عانت من ظلم امريكا ووحشيتها، ان تعتبر انتصار حركة طالبان يصب لصالحها بصرف النظر عن وجهات نظرها السلبية بحقها.