23 ديسمبر، 2024 12:40 م

حين اتملّى وجوههم ارى الحزنَ يتكدّس فيها تضاريضَ وحفراً هي كتاباتُ الزمن تنطوي على خزين التجارب . سأقفُ هنا وهلة ً استقريء وجها اعرفه من بواكير الطفولة . وللطفولة مُزنها وبرقها ورعودُها تزمزمُ فينا . اذاً نحنُ قبالة مشهدين . واحدٍ توارى عن قصد ، لكنّ أواذيه باقية على ضفاف الذاكرة ، وكلما تمعّنا فينا حاضراً نتمظهر لنا ماضياً . ومشهد ٍ ثان هو ما نحنُ عليه اللحظة . زمنٌ شاخ فوق سيمائنا يناضل ليتمرأى خلل تجاعيد الأسى والآحباط . الإحباطُ يتأتى من اليأس ، اليأس من جحود سنوات العمر . كان الوجهُ الواحد يكتنز بالآمال والمشاريع . بعضُها جرفها المستحيل الى ممالكه . وبعضُ بعضها اُنجِزَ على مضض . فليس كلّ ما نناضل من اجله بمُدرك . كان شريطُ ُخّطانا يُجاري المراحلَ العمرية ، حيناً يتعثر ويتوقفُ . ونحنُ خلال ذلك النضال نبذلُ جهداً يستهلك طاقتنا الجسديّة . وكلما طال بنا الزمنُ تسلقنا سُلمَ المأرب العصي . وكلُّ مأرب في أعلى الذروة . لذلك يهدّ الصعودُ حيلتنا . وإذ نبلغ الذروة تشيخُ قُوانا .فيزدحم الوجهُ والجلد والحركة بالوهن والكلال . هنا تُرانا على غير ما كنا قبل عقود . أعرفُ أنّ كلَّ خطوة صعود تستدعي طاقة ، لكنّها تمنحنا تجربة ً وخبرات . الخبرة تجيء بعد فوات الآوان لا تنفعنا الّا بمقدار ضئيل ، لكنها نافعة لمَنْ هم اصغر منا . وأولئك لا يسمعون الينا . انشغلوا بما آمنوا به ، وما رسخ لديهم ثابتاً من ثوابت الشباب .
امسِ كنتُ انظر في وجهٍ صديق تعرّفته مبتدأ سبعينيات القرن الماضي . كانت ابتسامته جورية ، ووجهه حقلُ سنابل . وكلماتُه دررٌ يرميها في سمعي . وجهاً ريعانَ رائعاً كان . لكن صورته في الصحيفة شبحية تئنّ من التعب والوصب ، انظرُها واسمعها كما لو كان نائماً يتماوجُ شخيره . الصورُ تشخر احياناً فهي منتهكة ومقموعة تفتح في متونها تجاعيد هيمنت على سيمائها وبهائها . الماضي ذبل وتيبّس . والحاضرُ حزنٌ محصورٌ بين اليأس واليباس . عينان منطفئتان عجفاوان ، والخدان اضمحلّا وتواريا . هذا الوجهُ هو آخرُ لا ينتمي الى مَنْ اعرفه .إنه الآن فوق القمة ، وكلّ قمة لها زوالٌ . فمَنْ يُحلّقُ عالياً سيتهاوى عاجلاً . لكني ساشهد للعالي المتهاوي أنّه ثرُّ الآبداع ، طريّه ، يتواصلُ مع المستقبل ، لا يلتف الى الوراء . فما تركناه وراءنا محضُ ذكريات لا يصلح أن يكون زاداً ليومنا ولأيامنا القابلات . ما زال الوجهُ المُغضّن الشائخُ مصدرَ اشعاع . لذلك / مادام ُمشعّاً في وسعه أن يُنوّرَ ما حوله / لا عيبَ ولا خجلَ أن يُطلّ علينا بين حين وآن . فهو ممتليءٌ ثقة ً بالنفس ، مُفعماً بقدرات تنويرية وحياتية . الغضونُ التي تتمشى على ادمنا وتُثقل كواهلنا لا تمنعنا من مُمارسة الإبداع والإنخراط في دروبه . ولطالما كان له / لهذا الوجه المُجعّد الناظر فينا / صولاتٌ في الحبّ والتضحية والوفاء . هذا مآلُ كلّ حيّ ٍ يقطع أشواط حياة . كنتُ قرأتُ منجزه الإبداعي ، وما زلتُ اتابعه يشعُّ عنفواناً يُبهرنا ويهزّنا ويُسحرنا كما النسيمُ يخرج من معطف الربيع ومن أردانه . ميزةُ الثقافة أنها تُبقي واعية المثقف ألقَ الطرواة والخصب والعطاء . ولا يغرّنّكم ذا الوجهُ المسكون بالكمد والإنكسار فلمّا يزلْ مُطلّاً علينا نجمة ً بارقة تومضُ تحت رماد الغضون والحفر . امسُه الخضلُ ما برح ينبض عندي ، اراه طيّ السنين الآفلة ، يجيئني نضراً لم يطله النسيان . فتحتَ هذا الهباء الطحلبي الذي يغشى سيماءه طفلُ يمرعُ في حقل ، حقل كان مأوى اليعاسيب والفراشات والذكريات والكركرات والعصافير والشحارير . فبأيّ حقّ ٍ نواريه بالعقوق والنكران؟
ذابلُ النظرة ، باهتُ الملمح ، وتحتَ هذا الوقار النحاس زمنٌ لم يزلْ جارياً في دروب العمل . لم تكلْ خطاه ، ولا عراه وهنٌ . كان ذاتَ الهمة ، لكن تغشّاه قشورٌ ، هو كالبصلة /  حسبَ هيرمان هيسة / ينطوي على طبقات ، كلُّ طبقة تمرّدٌ على المستهلك المألوف ، خارج الإنضباظ . مضى يقطعٌ شوط العمر من الق الى ألق . وذا هو يرسو على القمة . ولا خوفَ عليه من السقوط . السقوط مراحل ، سقطة اخلاق وشراسة وعدوان وسمعة وجهل ونكوص وجنون . هو ليس من هذه ، بل كان يعلو بكل اجنحة الإبداع حتى ارتقى سلمَ المجد وسكن في حضن الأمن والخلود . وكلُّ خلود خارج دائرة الزوال . قد ينطفيء عاجلاً أم أجلاً ، ينطفيء مثل نجمة بعيدة اعطى كلَّ ضياءه لمَنْ عايشهم ، ولا تثريب عليه أن يهوى بعدئذ . بعد أنْ اغتنى وأغنى الآخرين .
تحتَ هذا الذبول تواريخُ رضا وراحة ضمير واعتداد بالذات المانحة والسخيّة . كان شجرة ً ذات ثمر وقوت قوّتتْ الطير والبشر والريح والفضاء والزمن . فأرى في عينيه الناعستين كلّ ما وهبنا وزوّدنا بالعطاء الثقافي والأخلاقي . ما جرح نسمة ً ، ولا طفح اديمُه بدمامل الأذى . وليطمئن إذن فهو الباقي إن عاش أو غرب . سنراه دوماً في كتبه الممتدّة عبر سلالم العمر ، في كتابات نشرها خلل دروب المعيشة . في تلاميذه الألى يملأون ساحات الإبداع يحرّكون ماكنة الزمن بتصميم وبتفوّق . احسدُه ، احسدُ تأريخه المخضلَ بالألمعية وبالسخاء . هو باق ٍ فيهم ، يتقمصونه خللَ الطريق عبر مراحل ابداعية لا تعرف الفتور ولا التوقف . هنا سأتوقفُ ، سيأخذ مني هذه الجورية الحمراء اعطتنيها طالبة ٌ صغيرة بمناسبة يوم الحبّ . الحبُّ هو الأملُ والزهوُ والحياة ، لولاه لما كنا وما كان الزمنُ يتمشى بيننا ملتفاً بوسائل التقدّم لنعيشَ في حضن الأمن . كان كلّ ما يتمرأى من حولنا داخل هذه النظرة المنطفئة . فإن اطفئتْ عينٌ أو ألفٌ فستومضُ  آلافٌ وملايينُ . الإبداعُ لن يتوقف ، والزمنُ يظلّ جارياً بيننا ، لكنه يتقلب ويُراوغ ويقتربُ ويبتعد ، يكون تارة خلفنا ، وتارة الى جوارنا . بيدَ انّه أبونا  وامنا واهلنا ، فكيف يتخلّى الأهلُ عن بضعة منهم …..؟